“إن وصلتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي”.. بهذه الكلمات التي تخترق جدار الصوت والروح، لم يبدأ أنس الشريف، مراسل الجزيرة في غزة، نهاية قصته، بل دشن خلودها.

لم تكن هذه وصية رجل يستسلم للموت، بل كانت نصا تأسيسيا لمعركة قادمة، إستراتيجية مضادة كُتبت باليقين في وجه صاروخ لم يكن يهدف إلى قتل جسد، بل إلى اغتيال حقيقة.

إن استشهاد أنس الشريف وزميله محمد قريقع 10 أغسطس/ آب 2025 ليس مجرد جريمة حرب تُضاف إلى سجل طويل ومظلم؛ بل هو لحظة انكسار تكشف عن إفلاس إستراتيجي وأخلاقي كامل لـ”معسكر الاحتلال”، إنه ليس مجرد خبر، بل هو عارض مرضي لحالة تحتضر، وعلامة فارقة في معركة “الطوفان الثقافي” الذي يعيد تشكيل وعي العالم.

هذا المقال ليس رثاء، بل هو تشريح دقيق لهزيمة القاتل في اللحظة التي توهم فيها أنه انتصر.

من رحم العنف وُلدت الأداة الثالثة، الأقوى على الإطلاق: “الوصية” كسلاح للخلود. لقد ارتكب القاتل خطأ إستراتيجيا قاتلا؛ لقد حوّل الشاهد إلى شهيد، والشاهد يمكن إسكاته، أما الشهيد فهو شخصية لا تموت، تتجاوز الزمان والمكان

تجريد أدوات المعركة: حين تصبح الكاميرا أخطر من الدبابة

لفهم عمق ما حدث، يجب أن نجرد المعركة من أدواتها المادية ونتأمل في وظائفها الرمزية. في حروب القرن العشرين، كانت القوة تقاس بالحديد والنار، بالدبابات والطائرات. أما في حرب السرديات المعاصرة، حرب الوجود والهوية، فقد أصبحت “الكاميرا” هي خط المواجهة الأول، وسلاح الردع الأكثر فاعلية.

في يد صحفي مثل أنس الشريف، لم تكن الكاميرا مجرد أداة نقل سلبية، بل كانت أداة “خلق للواقع” في وعي العالم، قوة فاعلة تُبطل مفعول آلة دعاية كلفت مليارات الدولارات.

كل صورة بثتها، كل تقرير حي نقلته من قلب الدمار، كان يمثل طلقةَ حقيقةٍ في وجه سردية الخصم! لقد كشفت الكاميرا عن “عدم التوازن” الهائل بين قوة عسكرية غاشمة وحقيقة إنسانية مجردة، وأجبرت العالم على النظر إلى ما كان يُراد له أن يبقى في الظلام.

هنا، لجأ المعسكر الآخر إلى أداته المضادة: الاغتيال! لكن، يجب أن نرى هذا الاغتيال على حقيقته، ليس كعمل عسكري تكتيكي، بل كعمل “معرفي” يائس.

إنه إستراتيجية “اقتل الشاهد”، التي لا تهدف إلى القضاء على فرد، بل إلى القضاء على “زاوية الرؤية” التي يمثلها، إطفاء النور لخلق فراغ معلوماتي، صندوق أسود تُرتكب فيه الفظائع دون أن يراها أحد.

إنه اعتراف صريح ومذل بالهزيمة في ساحة النقاش، والإقرار بأنهم لا يستطيعون مواجهة الصورة، فيلجؤون إلى تدمير العين التي تلتقطها.

لكن، من رحم هذا العنف وُلدت الأداة الثالثة، الأقوى على الإطلاق: “الوصية” كسلاح للخلود. لقد ارتكب القاتل خطأ إستراتيجيا قاتلا؛ لقد حوّل الشاهد إلى شهيد، والشاهد يمكن إسكاته، أما الشهيد فهو شخصية لا تموت، تتجاوز الزمان والمكان.

وصية أنس الشريف المسجلة أصبحت “نصا مقدسا” في هذه المعركة الثقافية، منشورا لا يمكن حذفه، وصوتا لا يمكن خنقه. فعل القتل، الذي هدف إلى الإنهاء، أطلق عملية “بعث” للسردية على مستوى أوسع وأكثر ديمومة، محققا بعمله ذاك عكس ما أراده تماما.

الطوفان يتجسد واقعا في آلاف عمليات إعادة نشر وصية أنس الشريف، وفي ملايين التغريدات التي حولت اسمه إلى وسم عالمي، وفي وجوه المتظاهرين من طوكيو إلى نيويورك الذين رفعوا صورته

البعد التاريخي: أصداء إستراتيجية اليائسين

إن إستراتيجية “اقتل الشاهد” ليست ابتداعا جديدا، بل هي علامة مسجلة تاريخيا للأنظمة التي تبدأ بفقدان شرعيتها وتوازنها… إنها صدى يتردد عبر تاريخ الصراعات المظلمة.

في فيتنام، لم تكن الطائرات الأميركية تخشى شيئا قدر خشيتها من عدسات مصورين مثل “نيك أوت”، الذي التقط صورة الطفلة الهاربة من جحيم النابالم، وهي الصورة التي فعلت ما لم تفعله الجيوش في تغيير الرأي العام الأميركي.

وفي حصار سراييفو، كان قناصة الصرب يتعمدون استهداف الصحفيين؛ لأن تقاريرهم كانت تجلب التعاطف الدولي، وتحشد الضغط السياسي. وفي نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، كانت كبرى المعارك هي معركة منع الكاميرات من توثيق حقيقة القمع.

النمط ثابت وواضح: اللجوء إلى استهداف الصحفي هو العرض الأخير لمرض “الاستبداد المعرفي”، وهو يأتي دائما عندما يعجز النظام عن تبرير أفعاله، فيلجأ إلى منع توثيقها.

إنه ليس علامة قوة، بل هو تشنج ضعف، واعتراف بأن الحقيقة التي يحملها هذا الصحفي أصبحت خطرا وجوديا على سردية الدولة بأكملها. ما يميز لحظة أنس الشريف هو أن هذا الفعل اليائس يحدث في عصر رقمي لا يرحم، حيث تتضاعف تداعيات قتل الشاهد بشكل لا نهائي.

لقد ظنوا أنهم باغتيال الشاهد يبنون سدا من الصمت، لكن الصاروخ الذي قتله لم يكن حجرا في هذا السد، بل كان الديناميت الذي نسفه بالكامل، مُطلقا موجة عاتية من الوعي الجمعي والغضب الإنساني

الطوفان الثقافي والسد المنهار

وهنا، تتحول فكرة “الطوفان الثقافي” من كونها مجرد مفهوم نظري، لتصبح حقيقة ملموسة وهادرة يؤكدها القاتل بفعلته. هذا الطوفان ليس شيئا مجردا، بل هو النتيجة الحتمية والمباشرة لمحاولتهم اليائسة إخفاء الحقيقة.

فالطوفان يتجسد واقعا في آلاف عمليات إعادة نشر وصية أنس الشريف، وفي ملايين التغريدات التي حولت اسمه إلى وسم عالمي، وفي وجوه المتظاهرين من طوكيو إلى نيويورك الذين رفعوا صورته.

كل مقطع فيديو يحلل جريمته، وكل مقال يُكتب عن إرثه، وكل ناشط يحمل قصته.. كل شيء من ذلك هو قطرة في هذا الطوفان الذي أطلقوه بأيديهم.

لقد ظنوا أنهم باغتيال الشاهد يبنون سدا من الصمت، لكن الصاروخ الذي قتله لم يكن حجرا في هذا السد، بل كان الديناميت الذي نسفه بالكامل، مُطلقا موجة عاتية من الوعي الجمعي والغضب الإنساني. إنهم لم يواجهوا الطوفان؛ بل إنهم، بفعلتهم هذه، من استدعوه وأثبتوا وجوده وقوته التي لا يمكن السيطرة عليها.

عندما تلجأ إلى القوة الغاشمة لإسكات حامل القصة، فأنت تعترف بشكل قاطع بأن قصته كانت هي الحقيقة، وأنك لا تملك قصة مضادة مقنعة أو حجة فكرية تواجهها، لقد خسرت “حرب الأفكار” فلجأت إلى “حرب الأجسام”

الإفلاس الكامل لمعسكر الاحتلال

إن اغتيال أنس الشريف ليس مجرد جريمة، بل هو شهادة إفلاس شاملة للمعسكر الذي ارتكبها، ويمكن تشريح هذا الإفلاس على ثلاثة مستويات:

  • الإفلاس الأخلاقي: إن الانتقال من مرحلة التكذيب (اعتبار ما تقوله الجزيرة كذبا) إلى مرحلة الاغتيال المباشر، مع تبريره السخيف باتهام صحفي معروف بأنه “قائد خلية”، هو إعلان صريح بالتخلي عن آخر قناع أخلاقي، أو أي ادعاء بالانتماء إلى عالم يحترم القانون الدولي وحرية الصحافة.
  • الإفلاس الإستراتيجي: على المدى الطويل، هذا الفعل هو انتحار إستراتيجي؛ فلقد حولوا صحفيا محترفا إلى أيقونة عالمية خالدة، لقد منحوا خصومهم رمزا لا يُقهر وقصة ملهمة ستتردد لعقود.. لقد حققوا خسارة إستراتيجية فادحة مقابل مكسب تكتيكي، يتمثل في إسكات صوت واحد ليوم واحد.
  • الإفلاس السردي: وهذه هي النقطة الأهم.. عندما تلجأ إلى القوة الغاشمة لإسكات حامل القصة، فأنت تعترف بشكل قاطع بأن قصته كانت هي الحقيقة، وأنك لا تملك قصة مضادة مقنعة أو حجة فكرية تواجهها، لقد خسرت “حرب الأفكار” فلجأت إلى “حرب الأجسام”. إنه الإفلاس المطلق في سوق الشرعية العالمية، وإعلان الهزيمة في معركة العقول والقلوب.

أرادوا قتل الشاهد، فحوّلوه بجهلهم إلى “الدليل” نفسه؛ دليل أبدي، لا يمكن دحضه، على الجريمة وعلى إفلاس مرتكبها

إرث الشاهد

نعود من حيث بدأنا: وصية أنس الشريف.. لقد فهم بعمق قوانين المعركة الجديدة، فهم أن جسده “أداة” مؤقتة، لكن “الشهادة” كفعل يمكن أن تصبح إرثا خالدا. لم يكن مقتله نهاية سردية الحقيقة في غزة، بل كان الدليل الأكثر دموية وإقناعا على صحة كل حرف تم بثه من هناك.

أرادوا قتل الشاهد، فحوّلوه بجهلهم إلى “الدليل” نفسه؛ دليل أبدي، لا يمكن دحضه، على الجريمة وعلى إفلاس مرتكبها. وهذا هو قانون الكون الأزلي، حيث يولد من رحم الظلم المطلق- وبشكل حتمي- الضوء الذي يكشفه ويهزمه.

مصنَّف ضمن:

الجزيرة نت, مقالات,