في أروقة مراكز الفكر بواشنطن وداخل الكونغرس، يدور نقاش صامت لكنه عميق؛ ثورة فكرية قد لا تتصدر عناوين الأخبار اليومية، لكنها تعِد بتغيير وجه السياسة الخارجية الأميركية كما عرفناها طوال العقود الثلاثة الماضية. لقد ولى زمن الإجماع على أن أميركا هي “شرطي العالم” والقوة المهيمنة التي لا غنى عنها.

اليوم، يتشكل إجماع جديد، وإن كان هشا، بين جيل صاعد من السياسيين والمفكرين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي: إجماعٌ يرى أن سياسة الهيمنة الليبرالية قد فشلت، وأن الوقت قد حان لـ”إعادة التوازن” والعودة إلى الواقعية.

هذا التحول ليس مجرد تغيير في التكتيكات، بل هو انعكاس لـ”تغير ثقافي” أعمق؛ موجة تصحيحية تسعى لإعادة عقارب البندول إلى المنتصف بعد أن بلغ أقصى درجات التطرف في التمدد والتدخل.

إنها قصة محاولة استعادة التوازن المفقود، استجابة لقانون كوني أزلي ينص على أن أي نظام يبتعد عن نقطة اتزانه لا بد أن يواجه صراعا يدفعه للعودة إليها.

برز جيل جديد يرفض بإصرار حكمة الجيل الأكبر. الشعار الذي يوحدهم هو: “كلنا واقعيون الآن”، وهم يسعون إلى استبدال طموحات الهيمنة بمفاهيم أكثر تواضعا مثل “ضبط النفس” و”تحديد الأولويات”

شروخ في صرح الهيمنة: الخلل الذي استدعى التصحيح

لفهم الحاضر، لا بد من العودة إلى اللحظة التي اختل فيها التوازن. فمع نهاية الحرب الباردة، وجدت الولايات المتحدة نفسها القوة العظمى الوحيدة في العالم.

هذه “اللحظة أحادية القطبية” أدت إلى نشوء عقيدة سياسية طموحة: الهيمنة الليبرالية. كان الهدف ليس فقط حماية المصالح الأميركية، بل إعادة تشكيل العالم على صورتها، عبر نشر الديمقراطية، وتشجيع التجارة الحرة، والتدخل عسكريا عند اللزوم لفرض هذا النظام.

لكن هذه السياسة، التي بدت منطقية في التسعينيات، زرعت بذور فنائها بنفسها؛ إذ أحدثت خللا عميقا بين طموحاتها العالمية وقدراتها وواقعها الداخلي. وجاءت صدمتان كبيرتان لتكشفا هذا الخلل وتُطلقا شرارة الصراع الذي استدعى موجة “إعادة التوازن”:

  • حرب العراق (2003): كانت هذه الحرب بمثابة الصدمة الكبرى التي حطمت أسطورة التدخل العسكري الناجح. فقد كشفت عن حدود القوة الأميركية، واستنزفت موارد هائلة من المال والأرواح، وأدت إلى زعزعة استقرار منطقة بأكملها، دون تحقيق ديمقراطية مستدامة. داخليا، ولّدت الحرب سخطا شعبيا وإرهاقا من “الحروب التي لا نهاية لها”.
  • صدمة الصين الاقتصادية: على مدى عقود، راهنت واشنطن على أن دمج الصين في الاقتصاد العالمي سيجعلها أكثر ليبرالية. ما حدث كان العكس؛ فقد استخدمت الصين قواعد التجارة المفتوحة لتصبح عملاقا صناعيا، بينما تضرر العمال الأميركيون وفُقدت ملايين الوظائف في قطاع التصنيع. هذا الخلل الاقتصادي غذّى شعورا بالغضب الشعبوي، وولد قناعة بأن النخبة السياسية ضحّت بمصالح المواطن العادي لصالح نظام عالمي مجرد.

يؤكد “مات داس”، المستشار السابق لبيرني ساندرز، أن الشعب الأميركي سئم “الحروب الغبية والعبثية”، وأن الوقت قد حان لتحديد الأولويات والتركيز على التحديات الداخلية

مهندسو الواقعية الجديدة: تيار المؤيدين

من رحم هذا السخط، برز جيل جديد يرفض بإصرار حكمة الجيل الأكبر. الشعار الذي يوحدهم هو: “كلنا واقعيون الآن”، وهم يسعون إلى استبدال طموحات الهيمنة بمفاهيم أكثر تواضعا مثل “ضبط النفس” و”تحديد الأولويات”.

  • على اليمين الجمهوري: يبرز صوت “البريدج كولبي”، المسؤول السابق في البنتاغون، الذي يجادل بأن أميركا منهكة وعليها التوقف عن لعب دور الشرطي في مناطق أقل أهمية إستراتيجيا مثل الشرق الأوسط، والتركيز بشكل كامل على التحدي الوجودي الذي تمثله الصين.

يشاركه في هذا الرأي سيناتورات- مثل “جيه دي فانس” و”ماركو روبيو”- الذين ينتقدون النظام العالمي الليبرالي القديم باعتباره أداة أضرت بالصناعة والطبقة الوسطى الأميركية. بالنسبة لهم، “أميركا أولا” ليست مجرد شعار، بل هي إستراتيجية لإعادة التوازن بين الالتزامات الخارجية والمصلحة الوطنية.

  • على اليسار الديمقراطي: تقود مفكرات شابات مثل “ميرا راب-هوپر” و”ريبيكا ليسنر” الدعوة إلى التغيير. في كتابهما المشترك، تجادلان بأن نظام ما بعد الحرب الباردة قد “تهدم على نحو لا يمكن إصلاحه”، وتدعوان إلى صياغة السياسة الخارجية من “صفحة بيضاء” تعكس مصالح أميركا الحقيقية اليوم.

ويؤكد “مات داس”، المستشار السابق لبيرني ساندرز، أن الشعب الأميركي سئم “الحروب الغبية والعبثية”، وأن الوقت قد حان لتحديد الأولويات والتركيز على التحديات الداخلية.

لا يزال “الحرس القديم” يسيطر على المناصب العليا في وزارة الخارجية والبنتاغون ومجلس الأمن القومي. هذه المؤسسات مصممة للعمل وفق عقيدة الهيمنة، وتغييرها يشبه محاولة تغيير مسار ناقلة نفط عملاقة

مقاومة الحرس القديم: تيار المعارضين (Establishment)

بالطبع، هذه الموجة التصحيحية تواجه مقاومة شرسة من “الحرس القديم” أو ما يُعرف بـ”المؤسسة السياسية الخارجية”، وهم الذين صاغوا سياسة الهيمنة وما زالوا يؤمنون بها. حجتهم الأساسية تقوم على الخوف من الفراغ:

  • يرى هذا التيار، المكون من الليبراليين الدوليين والمحافظين الجدد، أن “ضبط النفس” الأميركي ليس حلا، بل هو دعوة للفوضى. فهم يحذرون من أنه إذا تراجعت أميركا، فإن قوى معادية مثل الصين وروسيا ستسارع لملء الفراغ، مما سيجعل العالم مكانا أكثر خطورة لا أكثر أمانا.
  • كما يجادلون بأن التخلي عن دور القيادة العالمية سيؤدي إلى تآكل شبكة التحالفات التي بنتها أميركا على مدى 75 عاما، والتي تشكل حجر الزاوية في أمنها وازدهارها. بالنسبة لهم، فإن المطالبة بأن “يتحمل الحلفاء أعباء أكثر” قد تبدو وكأنها تخلٍ عنهم، مما يدفعهم للبحث عن بدائل أخرى.
  • أخيرا، هناك الحجة الأخلاقية. يعتقد أنصار هذا التيار أن أميركا لديها مسؤولية فريدة في الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان حول العالم. والتحول نحو “الواقعية” الباردة التي تركز فقط على المصالح الضيقة هو، في نظرهم، تخلٍّ عن القيم التي تأسست عليها الأمة.

هل ستنجح هذه الموجة في إيجاد مرسى جديد أكثر توازنا واستدامة، أم أن بندول التاريخ سيتأرجح مرة أخرى نحو طرف آخر من التطرف؟

الطريق إلى الأمام: تحديات وشكوك

إن نجاح حركة “إعادة التوازن” هذه ليس مضمونا على الإطلاق، فالتحديات هائلة:

  • الجمود المؤسسي: لا يزال “الحرس القديم” يسيطر على المناصب العليا في وزارة الخارجية والبنتاغون ومجلس الأمن القومي. هذه المؤسسات مصممة للعمل وفق عقيدة الهيمنة، وتغييرها يشبه محاولة تغيير مسار ناقلة نفط عملاقة.
  • الانقسام حول التفاصيل: بينما يتفق الجيل الجديد على ضرورة التغيير، إلا أنه يختلف بشدة حول كيفية تنفيذه. فالجمهوريون يميلون إلى مواجهة الصين تجاريا وعسكريا بشكل مباشر، بينما يفضل الديمقراطيون بناء تحالفات ديمقراطية والتركيز على قضايا حقوق الإنسان. هذا الانقسام قد يمنع تشكيل جبهة موحدة قادرة على إحداث تغيير حقيقي.
  • عامل الأزمات الطارئة: كل ما يتطلبه الأمر هو أزمة دولية كبرى -غزو جديد، هجوم إرهابي واسع، أو انهيار اقتصادي عالمي- لتعود الغرائز التدخلية القديمة إلى السطح، وتكتسح معها كل الحديث عن “ضبط النفس”.

في الختام، ما نشهده اليوم في واشنطن هو أكثر من مجرد نقاش سياسي؛ إنه صراع ثقافي عميق حول هوية أميركا ودورها في العالم.

إنه التجسيد الحي لنظرية “إعادة التوازن”، حيث تحاول موجة ثقافية جديدة، ولدت من رحم أخطاء الماضي، أن تصحح مسار سفينة ضلت طريقها بسبب الإفراط في الطموح.

السؤال الذي سيبقى مفتوحا هو: هل ستنجح هذه الموجة في إيجاد مرسى جديد أكثر توازنا واستدامة، أم أن بندول التاريخ سيتأرجح مرة أخرى نحو طرف آخر من التطرف؟

إن الإجابة عن هذا السؤال ستشكل ملامح القرن الحادي والعشرين، ليس لأميركا وحدها، بل للعالم أجمع.

مصنَّف ضمن:

الجزيرة نت, مقالات,