في مجالسنا الخليجية ومحادثاتنا اليومية، يتردد صدى مألوف: سيل من الشكاوى حول أداء المؤسسات، أو سلوكيات الشباب، أو غلاء الأسعار. لا شك أن النقد ضرورة، لكن حين يتحول إلى نغمة دائمة، نكون قد وقعنا في فخ «ثقافة الشكوى» الذي يستنزف طاقتنا ويشل قدرتنا على الفعل. إنه خلل في ميزان الفرد الداخلي، حيث يلقي بكل ثقله في كفة «الظروف الخارجية»، ويترك كفة «الإرادة الذاتية» فارغة وخفيفة.
لماذا تبدو هذه الثقافة جذابة في بيئتنا تحديداً؟ لعل السببين التاليين يفسران جزءاً من الظاهرة: أولاً، «متلازمة الدولة الراعية»؛ فعقود من الرعاية الحكومية الشاملة، رغم إيجابياتها، قلصت من حجم «عضلة المبادرة» الفردية، وجعلت من الشكوى أداة المطالبة الطبيعية. ثانياً، «رفاهية الشكوى»؛ فالرفاه المادي النسبي قد يحول الشكوى من تعبير عن ألم حقيقي إلى مجرد «فضفضة» في المجالس، مما يجعل الانتقال للمبادرة أكثر صعوبة، لأنه يتطلب «همة» واعية لا «حاجة» ملحة.
في المقابل، يقف «صاحب المبادرة». هو ليس شخصاً خارقاً، بل فرد قرر أن يغير زاوية نظره. هو لا ينكر المشكلة، لكنه يرفض أن تكون نهاية القصة. هو يركز طاقته المحدودة على «دائرة تأثيره» المباشرة، مهما صغرت. هذا الشخص يجسد المفهوم القرآني لـ «عمارة الأرض»، فالله «اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا»، أي كلفكم بمهمة الإصلاح والبناء. الشكوى هي عكس العمارة، إنها خراب نفسي، أما المبادرة فهي تطبيقها العملي.
صاحب المبادرة لا يكتفي بالفعل، بل يسعى لـ»الإحسان» فيه، أي إتقانه وتجويده كأنه يرى الله. هو يرى في مبادرته، مهما صغرت، اقتداءً بأعظم المبادرين في التاريخ: الأنبياء والصالحين.
فكيف نزرع بذرة المبادرة في حياتنا؟
-ابدأ بمملكتك الصغيرة: قبل إصلاح العالم، رتب سريرك، بادر بكلمة طيبة في بيتك. التغيير يبدأ من محيطك المباشر.
-اختر معركة صغيرة وفز بها: لا تشغل نفسك بالمشكلات الكبرى. ابدأ بقضية صغيرة في حيك (كمنظر القمامة) أو عملك (كتنظيم الملفات). النجاح الصغير يولد دافعاً لنجاح أكبر.
-ابحث عن شريك واحد: المبادرة مُعدية. شخصان يعملان أقوى من ألف شخص يشكون. ثم احتفلوا بانتصاركم الصغير، فالإيجابية هي وقود المبادرة.
-حوّل المبادرة إلى كيان: بعد النجاح الأول، فكر في الاستدامة. تعلم مهارات «العمل المؤسسي» البسيطة: شكل فريقاً صغيراً، أو اكتب «ميثاق عمل» لمبادرتك. هذا ينقلها من الاعتماد على حماسك الشخصي إلى كيان يمكن أن ينمو ويستمر.
إن استعادة التوازن التنموي في مجتمعاتنا ليست مهمة الحكومات وحدها، بل هي مسؤولية تبدأ من كل فرد. تبدأ في اللحظة التي تقرر فيها أن تكون مصدر ضوء، مهما كان خافتاً، بدلاً من أن تلعن الظلام. هذا التحول ليس عبئاً، بل هو تحرر، وهو أن ننتقل من كوننا مجرد نقاد سلبيين لقصة العالم، إلى أن نصبح مشاركين فاعلين في كتابة فصولها الأجمل.