إن الإغلاق الحكومي الأمريكي، الذي دخل التاريخ باعتباره الأطول، يتم تقديمه في السرد الإعلامي التقليدي كفصل جديد من فصول الصراع المألوف بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. تركز هذه التغطيات على “معارك عض الأصابع” حول بنود الميزانية، وتحديداً تمويل قانون الرعاية الصحية. لكن تحليلنا، الذي يستند إلى رصد طويل ومتعمق للتحولات الأيديولوجية والأنماط السياسية التي نطلق عليها “آثار الطوفان الثقافي”، يميل إلى استنتاج مختلف جذرياً: لقد كان هذا الإغلاق، في جوهره، مسرحاً لـ “حرب أهلية” داخلية في الحزب الجمهوري، وتكتيكاً متعمداً تم تصميمه ليس للوصول إلى تسوية، بل لتقويض شرعية المؤسسة التشريعية نفسها.

هذا التحليل هو وجهة نظر تستند إلى قراءة الأنماط والأدلة، وتستأنس بنماذج “نظرية الألعاب” لفهم دوافع الفاعلين الحقيقية.

المحور الأول: “الحرب الأهلية” كـ “محرك” للأزمة

خلافاً للتحليل السطحي، لم يكن الصراع الأساسي بين رئيس مجلس النواب مايك جونسون وزعيم الديمقراطيين حكيم جيفريز. بل كان الصراع الحقيقي بين جونسون، ممثل “المؤسسة” الجمهورية، و”جناح ماغا” الشعبوي داخل حزبه.

الأدلة على هذا الصراع الداخلي كانت واضحة. فقد رصدت التقارير مواجهات علنية، حيث وجهت النائبة مارجوري تايلور غرين، وهي صوت بارز في “جناح ماغا”، انتقاداتها مباشرة إلى قيادة حزبها. غرين لم تهاجم الديمقراطيين فقط، بل هاجمت جونسون، متهمة إياه بالضعف وإهدار الأغلبية الجمهورية، بل وذهبت إلى حد الاصطفاف المؤقت مع مطالب ديمقراطية كنوع من المناورة السياسية لإحراج قيادتها.

هذا السلوك، الذي يهدد بتكرار سيناريو الإطاحة برئيس مجلس النواب السابق كيفن مكارثي، يثبت أن “جناح ماغا” لم يكن يلعب للفوز بالتفاوض، بل كان يلعب لكسر “المؤسسة” الجمهورية التقليدية التي يتهمها بالخيانة.

المحور الثاني: “المسرحية السياسية” لتجاوز الكونغرس

إن “شلل” الكونغرس المتعمد لم يكن هو الهدف النهائي، بل كان “تهيئة للمسرح” لتقديم حلول من خارج المؤسسة. الهدف هو إثبات أن الكونغرس “فاشل” وأن “المنقذ” (السلطة التنفيذية) هو الحل الوحيد.

وقد جاءت ذروة هذه “المسرحية” في 23 أكتوبر 2025، عندما أعلن الرئيس دونالد ترامب أن “متبرعاً وطنياً” (تم الكشف لاحقاً أنه الملياردير تيموثي ميلون) قدم 130 مليون دولار للمساعدة في دفع رواتب القوات المسلحة.

هذا المبلغ كان “رمزياً” بامتياز؛ فهو لا يغطي سوى جزء ضئيل جداً من تكلفة رواتب الجيش (حوالي 100 دولار لكل جندي). لكن الهدف لم يكن مالياً، بل كان “سردياً”: إظهار الرئيس وحلفائه من الثروة الخاصة كـ “أبطال” يتدخلون لإنقاذ “الأصل المقدس” (الجيش) الذي تخلت عنه “المؤسسة الفاشلة” (الكونغرس). إن قبول البنتاغون لهذا التبرع، وتبريره السياسي بإلقاء اللوم على الديمقراطيين، يؤكد أن الإدارة بأكملها كانت جزءاً من هذا الأداء. 

المحور الثالث: “مصيدة” نظرية الألعاب

عندما نستأنس بـ “نظرية الألعاب” لفهم هذا المشهد، نرى أنه ليس “لعبة ثنائية” (حزب ضد حزب)، بل “لعبة ثلاثية الأطراف” معقدة (الديمقراطيون، المؤسسة الجمهورية، جناح ماغا)، ولكل منهم “مصفوفة أرباح” مختلفة تماماً.

  • الديمقراطيون (اللاعب 1): هدفهم واضح: الصمود للحصول على تنازلات سياسية (تمديد إعانات ACA)، والاستفادة من مشهد “فشل” الحزب الجمهوري الحاكم.
  • “المؤسسة” الجمهورية/جونسون (اللاعب 2): هدفهم هو البقاء السياسي وإنهاء الأزمة. لكنهم وقعوا في “مصيدة” (Zugzwang) حيث كل خيار هو خسارة.
    1. الخيار (أ): التحالف مع الديمقراطيين لإنهاء الإغلاق. النتيجة: يُنظر إليه كـ “خائن” ويتم الإطاحة به من قبل “ماغا” (كما حدث لمكارثي).
    2. الخيار (ب): الاستسلام لـ “ماغا”. النتيجة: يستمر الإغلاق إلى أجل غير مسمى، ويظهر بمظهر “العاجز” والفاشل أمام الرأي العام.
  • جناح “ماغا” (اللاعب 3):  هذا هو اللاعب الذي غيّر قواعد اللعبة. هدفه الأسمى و”الربح الأكبر” له هو “استمرار الفوضى”.

كل يوم إضافي من الإغلاق ليس خسارة لـ “ماغا”، بل هو انتصار يثبت سرديتهم بأن “واشنطن مستنقع” وأن “المؤسسة” (بما في ذلك قيادتهم الجمهورية) عاجزة.

خاتمة (وجهة نظر)

بناءً على هذا التحليل، فإن وجهة نظرنا هي أن الإغلاق الحكومي لعام 2025 لم يكن “فشلاً” عرضياً، بل كان “تكتيكاً” ناجحاً لـ “جناح ماغا”. لقد كان عملية هدم متعمدة لشرعية المؤسسة التشريعية، وتطبيقاً عملياً لـ “نظرية الفوضى” كاستراتيجية سياسية. لقد نجح “جناح ماغا” في إثبات أن “النظام” لا يعمل، ومهد الطريق لتقديم نموذج “ما بعد المؤسسات” الذي يعتمد على القائد القوي والثروة الخاصة، وهو ما يمثل جوهر “الطوفان الثقافي” في مرحلته الحالية.

مصنَّف ضمن:

التحليلات,