في عالم الدبلوماسية، الغياب أحياناً يكون أشد بلاغة من الحضور، والصمت قد يكون أعلى صوتاً من التصريحات. هذا بالضبط ما حدث في بروكسل مؤخراً، عندما خلا مقعد وزير الخارجية الأمريكي في اجتماع حلف الناتو.
لم يكن هذا “الكرسي الفارغ في الناتو” مجرد تضارب في المواعيد، ولا رسالة فتور عابرة. لقد التقط الحلفاء في أوروبا وآسيا هذه الإشارة بوضوح مرعب: إنها “الإشارة الصفرية” التي تؤكد شكوكهم العميقة. يبدو أن واشنطن، الغارقة في “طوفانها الثقافي” وانقساماتها الداخلية، لم تعد ترى في إدارة هذا التحالف “أولوية مقدسة” كما كانت لعقود.
من “الضامن” إلى “الغائب”: قراءة في الإشارة
لطالما كانت اجتماعات الناتو هي “الطقوس الدينية” التي تجدد شرعية النظام الغربي، وكان الحضور الأمريكي بمثابة “مباركة الكاهن الأكبر” لهذه الطقوس. غياب هذه المباركة اليوم يضعنا أمام احتمالين لا ثالث لهما:
- إما أن واشنطن تعاني من شلل مؤسسي يمنعها من ممارسة دور القيادة (فقدان العقلانية الاستراتيجية).
- أو أنها اتخذت قراراً واعياً بـ “تخفيض رتبة” التحالفات التقليدية لصالح سياسة “الانعزالية الانتقائية”.
وفي كلتا الحالتين، النتيجة بالنسبة للحلفاء واحدة: المظلة لم تعد مضمونة.
تأثير الدومينو: حينما يتحرك “الأطراف” لملء الفراغ
وصول هذه الإشارة إلى العواصم الحليفة أطلق سلسلة من ردود الفعل التي نشهدها اليوم، والتي ترسم ملامح عالم “ما بعد الهيمنة الأحادية”:
- في طوكيو (الخيار النووي الكامن): لم يكن الكشف عن القدرات النووية اليابانية الكامنة، والنقاش الجريء حول امتلاك السلاح النووي، وليد الصدفة. إنه استجابة مباشرة لغياب “الضامن”. اليابان تقرأ “الكرسي الفارغ في الناتو” وتخشى أن تراه غداً في طوكيو، لذا فهي ترجح احتمال الاعتماد على “مخالبها الذاتية” بدلاً من الوعود الأمريكية.
- في أوتاوا (الطلاق الاقتصادي): عندما يعلن مارك كارني أن العلاقة الاقتصادية مع أمريكا “انتهت كما نعرفها”، فهو يستبق الألم. كندا أدركت أن الجار الجنوبي تحول من “شريك” إلى مصدر “تهديد” وتقلب، فقررت التحوط عبر البحث عن شركاء جدد في الهند والصين.
- في برلين (الصحوة العسكرية): ألمانيا التي كانت مترددة، تجد نفسها اليوم أمام حتمية بناء “ناتو أوروبي” مصغر، وربما التفكير في ردع نووي مستقل، لأن الرهان على أمريكا أصبح مقامرة غير محسوبة العواقب.
السيناريوهات المحتملة: إلى أين نتجه؟
نحن لا نتحدث بحتمية عن “انهيار” أمريكا، بل عن “تحول في وظيفتها” داخل النظام الدولي. وبناءً على هذه المعطيات، نحن أمام سيناريوهات مرجحة للمستقبل القريب:
- سيناريو “الأرخبيلات المسلحة” (المرجح): لا تنسحب أمريكا تماماً، لكنها تترك الحلفاء ليديروا أمنهم الإقليمي بأنفسهم. نرى اليابان قوة عسكرية مستقلة في آسيا، وأوروبا تحاول بناء جيشها الموحد، بينما تكتفي أمريكا بالتدخل “عند الضرورة القصوى”. إنه عالم متعدد المراكز، وأكثر خطورة.
- سيناريو “التحالفات السائلة”: تتفكك الكتل الصلبة (مثل الغرب الموحد) لصالح تحالفات مؤقتة قائمة على المصالح. قد نرى كندا تتعاون مع الصين تجارياً بينما تبقى حليفة لأمريكا أمنياً. وتتحول العلاقات الدولية إلى “سوق صفقات” بدلاً من “مجتمع قيم”.
خاتمة: الواقعية الجديدة
إن “الكرسي الفارغ” في الناتو ليس مجرد حدث بروتوكولي، بل هو لحظة كاشفة. لقد أعلنت واشنطن -عن قصد أو عجز- أنها مشغولة بنفسها. وعلى العالم الآن أن يتكيف مع هذه الحقيقة. الرسالة وصلت، والكل بدأ في حزم حقائبه لمغادرة “بيت الطاعة” الأمريكي، ليس تمرداً، بل بحثاً عن مأوى آمن قبل هبوب العاصفة القادمة.