تخيل نفسك تقود سيارتك في أحد شوارع المنامة أو الكويت مثلا. على يمينك ويسارك، ترتفع أبراج زجاجية تناطح السحاب، ولوحات إعلانية تصرخ بأحدث الصيحات العالمية. وفجأة، عبر أثير الراديو، يتسلل إلى مسامعك لحنٌ قديم، وصوتٌ دافئ تعرفه جيدًا. قد يكون صوت محمد زويّد يروي قصة، أو عوض دوخي أو ناظم الغزالي يصف شعورًا، أو نهمة بحّار تروي حنين الموج.

في تلك اللحظة، يحدث شيءٌ يشبه السحر. يذوب زجاج الأبراج للحظة، ويخفت ضجيج المدينة، وتشعر بارتباط عميق، بلمسة حنان تداعب روحك. فتسأل نفسك: ما سر هذه القوة؟ لماذا أغنية بسيطة، بآلاتها القليلة وكلماتها الصادقة، قادرة على أن تهز وجداني أكثر من مئة أغنية صاخبة سمعتها هذا الأسبوع ونسيتها بالفعل؟ هنا يظهر معنى الجمال الأصيل في الأغنية الشعبية بوصفه رابطًا روحيًا ولغويًا وحسيًا يتجاوز الزمن.

الجواب يكمن في الفرق الجوهري بين “الجمال الأصيل ” الذي هو مرآة لأرواحنا، و”الضجيج العابر” الذي هو مجرد صدى فارغ لصيحات الآخرين. إن قصة خلود أغنية شعبية وموت ألف صيحة عابرة، هي قصة الصدق في مواجهة الزيف، وقصة الثقافة في مواجهة الاستهلاك.

إن الفن الذي يبقى ويخلد، سواء كان أغنية أو قصيدة أو حتى تصميم عمراني ك “سوق واقف” و ” سوق القيصرية” ، يمتلك مكونات سرية مشتركة. إنه ليس مجرد فن جميل، بل هو فن صادق:

  1. إنه يتحدث لغة الروح: الجمال الأصيل في الأغنية الشعبية ينبع من بيئتنا نحن. حين يغني فنان خليجي عن “الدلة” و”الهيل”، أو “البحر” و”عين المها”، فهو لا يستخدم مجرد كلمات، بل يستدعي مفاتيح تفتح خزائن الذاكرة والشعور المشترك في داخل كل واحد منا. هذه المفردات مشبعة برائحة أرضنا وحكايات أجدادنا. هكذا يتحوّل الجمال الأصيل في الأغنية الشعبية إلى تجربة وجدانية لا يمكن استنساخها.
  2. إنه يجسد الصدق الفني: الكثير من أعمالنا الخالدة وُلدت من تجارب حقيقية. قصائد كُتبت في مجالس حقيقية، وأغانٍ لحنت على عود يروي قصة صاحبه. هذا الصدق يخترق دفاعاتنا ويتسلل مباشرة إلى القلب، لأنه يفتقر إلى التصنع وبرودة الآلات الذي يميز الكثير من الإنتاج الفني التجاري اليوم.
  3. إنه صناعة جماعية: فالفن الأصيل غالبًا ما يكون نتاج “تشكيلة” متكاملة. الشاعر يلتقط همس المجتمع، والملحن يترجمه إلى نغم، والمغني يمنحه صوته، والجماعة (أنتَ وأنتِ) تحتضنه وتحفظه، فيتحول الجمال الأصيل في الأغنية الشعبية من عمل فردي إلى ملكية جماعية وجزء من الوجدان العام.

في المقابل، تأتي “الصيحات العابرة”. قد تكون مبهرة في شكلها، جذابة في إيقاعها، فاقعة في ألوانها.. لكنها غالبًا ما تكون كنخلة بلاستيكية طويلة جميلة، لا روح فيها ولا عبق. إنها تتحدث لغة بصرية وسمعية لا جذور لها في تربتنا. قد نستمتع بها كما نستمتع بوجبة سريعة، لكنها لا تغذي الروح ولا تترك أثرًا. والأهم، أنها مصممة لهدف واحد: أن تُستهلك بسرعة، وتُنسى بسرعة، لتفسح المجال للصيحة التي تليها.

وهنا يكمن الخطر التنموي. حين يغرق مجتمع ما في استهلاك الجمال المستورد فقط، فإنه يفقد تدريجيًا “حاسة الذوق” الخاصة به، ثم يفقد “القدرة على الإنتاج” الإبداعي الأصيل. وهذه حالة من الفقر الثقافي، قد تتزامن مع الثراء المادي، ولكنها تترك الأرواح جائعة وفارغة.

إن تمسكنا بالفن والجمال النابع من ثقافتنا ليس مجرد حنين للماضي، بل هو ضرورة تنموية للمستقبل:

فهو مرساة لهويتنا في عالم معولم يسعى لتنميط كل شيء. وهو غذاء لأرواحنا ويقلل القلق في وجداننا. وهو وقود لإبداعنا فهو “المكتبة” والغيمة الماطرة التي يجب أن ننهل منها لنستلهم أفكارًا جديدة لمستقبلنا.

و أخيرا  لنكن صانعي جمالنا ، فهذه رسالة بأن ثقافتنا ولّادة وقادرة على إنتاج جمالٍ خالد. ودعوة لك، أنتَ وأنتِ، ألا تكتفوا بدور المستهلك السلبي للضجيج العابر.ابحثوا عن الجمال الأصيل في الأغنية الشعبية، استمعوا إليه، زوروا أماكنه، تحدثوا عنه. لا كهروب إلى الماضي، بل كزادٍ نستقوي به لبناء مستقبلٍ لا يكون مجرد نسخة باهتة من عوالم أخرى، بل يكون تعبيرًا صادقًا وجميلًا عن أرواحنا نحن.

مصنَّف ضمن:

التحليلات,