“علينا أن نكون مستعدين لحرب مماثلة لتلك التي شهدها أجدادنا”.
لم تكن هذه الكلمات التي أطلقها الأمين العام لحلف الناتو مجرد تحذير روتيني، بل كانت نعيًا رسميًا لحقبة استمرت ثمانين عامًا. إنها إعلان صريح بأن صفحة “السلام الأميركي” (Pax Americana)، التي ضمنت لأوروبا رفاهيتها وأمنها منذ عام 1945، قد طُويت إلى غير رجعة، وأن القارة العجوز عادت لتعيش واقعها الجغرافي التاريخي القاسي: قارة محاصرة بالحروب، وعليها أن تقاتل لكي تعيش.
بناء القلعة.. بصمت
خلف صخب العناوين اليومية، تشهد العواصم الأوروبية ما وصفه مراقبون بـ”التعبئة الصامتة”. أوروبا اليوم لم تعد تنتظر نتائج الانتخابات في واشنطن، ولم تعد ترهن مصيرها بعودة ترامب أو بقاء بايدن أو غيرهما. لقد أدركت النخب الأوروبية، بعد صدمة “الكرسي الفارغ” والتردد الأميركي، أن المظلة الواقية قد رُفعت، وأن مرحلة ما بعد نهاية السلام الأميركي تفرض عليها بناء “قلعتها الخاصة” قبل فوات الأوان.
ما يحدث الآن هو تحول بنيوي نحو سيناريو “الأرخبيلات المسلحة”. وهو أحد السناريوهات التي ذكرناها سابقا، فبدلاً من الاعتماد على نظام عالمي موحد بقيادة واشنطن، تتحول أوروبا إلى “أرخبيل” عسكري مستقل، يعيد تسليح نفسه بسرعة قياسية. التقارير القادمة من برلين تكشف عن “خطة عمليات” سرية لنقل 800 ألف جندي، وفرنسا تعيد التجنيد الإجباري، وبولندا تحول نفسها إلى دولة عسكرية بإنفاق يقارب 5% من ناتجها القومي.
نهاية “حروب الرفاهية“
هذا التحول لا يقتصر على تكديس السلاح، بل يضرب عمق العقد الاجتماعي الأوروبي. لسنوات طويلة، خاضت الجيوش الأوروبية ما يمكن تسميته بـ”حروب الرفاهية”؛ عمليات حفظ سلام بعيدة أو ضربات جوية لا يشعر بها المواطن في باريس أو برلين.
أما اليوم، وأن مرحلة ما بعد نهاية السلام الأميركي تفرض عليها بناء “قلعتها الخاصة” قبل فوات الأوان. فاللغة اختلفت. الحديث عن تحديث الملاجئ، وتوزيع أدلة الطوارئ على المدنيين، وإلزام الشباب بالخدمة العسكرية، يعني شيئًا واحدًا مرعبًا: العودة إلى مفهوم “الحرب الشاملة”. الحرب التي لا تديرها الجيوش المحترفة فقط، بل تخوضها المجتمعات بأكملها. أوروبا تخبر مواطنيها بصراحة قاسية: زمن الاعتماد المجاني على الحماية الأميركية انتهى، وحان وقت دفع ضريبة الدم والمال بأنفسكم.
الواقعية الجديدة
إن الاستعداد لحرب “تشبه حروب الأجداد” هو اعتراف بفشل رهان “نهاية التاريخ” الذي بشرت به الليبرالية الغربية. لقد سقطت الأوهام، وعادت الحقائق الصلبة. روسيا تضغط من الشرق، والضامن الأميركي ينكفئ على نفسه في الغرب، والجنوب يغلي.
في هذا العالم الجديد، عالم ما بعد أمريكا، لم تعد أوروبا حديقةً محمية بسور أميركي، بل أصبحت جزيرة وسط أمواج متلاطمة. وما نراه اليوم من سباق تسلح محموم وتحضيرات لوجستية في ألمانيا وبولندا ودول البلطيق، ليس إلا محاولة لبناء سدود عالية لهذه القلعة الأوروبية، في زمن باتت فيه نهاية السلام الأميركي حقيقة جيوسياسية لا يمكن القفز فوقها، في انتظار الطوفان القادم الذي يبدو أن الجميع بات يوقن بحتميته.