في قاعة مجلس الأمن، حيث تصاغ قرارات السلم والحرب، يمكن ليد مرفوعة أن تكون أبلغ من آلاف الكلمات!

عندما رفعت الولايات المتحدة يدها مؤخرًا، مستخدمة الفيتو وحيدة ضد قرارات حظيت بإجماع دولي، كانت تكشف عن صدع يتسع، ليس فقط بينها وبين العالم، بل بينها وبين نفسها.

هذه العزلة الدبلوماسية هي صدى لتغير أعمق في الداخل الأميركي، وهذا يطرح سؤالًا: إلى متى يمكن لسياسة خارجية أن تعيش بمعزل عن ثقافة شعبها؟

“الطوفان الثقافي” الذي تجتاحه “ثقافة العدالة” بين الأجيال الشابة غيّر قواعد اللعبة الداخلية؛ وتُظهر استطلاعات الرأي أن قاعدة متنامية، خصوصًا في الحزب الديمقراطي، لم تعد تقبل الدعم التلقائي لإسرائيل

لعبة المستويين وتقمص مساحة الفوز

يقدم روبرت بوتنام مفتاحًا لفهم هذه المعضلة في نظرية “لعبة المستويين”: أي قائد يلعب لعبتين متزامنتين، دولية مع قادة العالم، وداخلية مع مجتمعه، ولكي تنجح أي سياسة، يجب أن تكون مقبولة على كلا المستويين.

لعقود، كان الفيتو الأميركي لصالح إسرائيل لعبة رابحة؛ حقق هدفًا إستراتيجيًّا دوليًّا وحظي بقبول داخلي متوائم مع “ثقافة الولاء” السائدة؛ فكانت “مساحة الفوز” واسعة. لكن “الطوفان الثقافي” الذي تجتاحه “ثقافة العدالة” بين الأجيال الشابة غيّر قواعد اللعبة الداخلية؛ وتُظهر استطلاعات الرأي أن قاعدة متنامية، خصوصًا في الحزب الديمقراطي، لم تعد تقبل هذا الدعم التلقائي.

كلما استُخدم الفيتو، تكسب الإدارة نقطة دوليًّا بمنطق قديم، لكنها تخسر شرعية داخلية ثمينة.. اللعبة أصبحت خاسرة على المدى الطويل.

هذه الأفعال لا تدافع عن حليف، بل تفكك أسس النظام القانوني الذي تدعي أميركا قيادته، وتكشف عن انفصام عميق يضعف مصداقيتها في كل القضايا الأخرى، من أوكرانيا إلى بحر الصين الجنوبي

صراع الهويات والانفصام الدبلوماسي

تزداد الصورة تعقيدًا مع “النظرية البنائية”، التي تؤكد أن مصالح الدولة تتشكل وفقًا لهويتها وقيمها. لفترة طويلة، ارتبطت هوية أميركا الدولية بكونها “حامية إسرائيل”، لكن هوية داخلية جديدة تتشكل، تريد لأميركا أن تكون “حامية لحقوق الإنسان بشكل عام”.

هذا التناقض لم يعد مجرد خلاف نظري، بل أصبح “انفصامًا” حادًّا في الشخصية الدبلوماسية الأميركية.

لم يعد الأمر يقتصر على استخدام الفيتو، بل تطور إلى هجوم مباشر على منظومة العدالة الدولية نفسها؛ إذ كيف يمكن لدولة أن تتحدث عن النظام العالمي القائم على القواعد، وهي في نفس الوقت تفرض عقوبات على مقررة خاصة للأمم المتحدة (فرانشيسكا ألبانيزي) لأنها تؤدي عملها؟ وكيف يمكنها التحدث عن العدالة، بينما يهدد مشرعوها المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية وعائلته؟

هذه الأفعال لا تدافع عن حليف، بل تفكك أسس النظام القانوني الذي تدعي أميركا قيادته، وتكشف عن انفصام عميق يضعف مصداقيتها في كل القضايا الأخرى، من أوكرانيا إلى بحر الصين الجنوبي.

الإصرار على الفيتو، وتصعيده بفرض عقوبات وتهديدات، هو محاولة يائسة للتمسك بـ”حاضر” تتلاشى قواعده

الاختيار الحتمي: التشبث أم التكيف؟

تقف الدبلوماسية الأميركية أمام نفس الاختيار الذي يواجه كل القوى في مراحل التحول: التشبث بالحاضر أم إدراك التغير؟

الإصرار على الفيتو، وتصعيده بفرض عقوبات وتهديدات، هو محاولة يائسة للتمسك بـ”حاضر” تتلاشى قواعده، إنه مسار يؤدي- كما علمنا ابن خلدون- إلى ضعف “العصبية” وبداية التراجع، لأنه يفقد التوازن مع مجتمعه وقيمه المتغيرة.

أما مسار “من يدرك التغير”، فيقتضي تكييف السياسة مع الواقع الجديد.. هذا لا يعني انقلابًا كاملًا، بل تطورًا إستراتيجيًّا: الامتناع بدل الفيتو، ووضع شروط للمساعدات، وقيادة مبادرات سلام حقيقية، واحترام القانون الدولي. هذا هو طريق إعادة “التوازن”، الطريق الوحيد لمن يريد أن يكون هو الغد.

إن قصة الموقف الأميركي لم تعد قصة دبلوماسية، بل أصبحت فصلًا في صراع أكبر بين ماضي أمة ومستقبلها الثقافي.

مصنَّف ضمن:

الجزيرة نت, مقالات,