إن المشهد السياسي والاجتماعي في الولايات المتحدة، بل وفي العالم بأسره، يقف اليوم “في عين العاصفة”. حالة من الاستقطاب الحاد والصراع العميق تتجاوز أسبابه الخلافات السياسية التقليدية لتصل إلى جوهر الهوية والقيم. ولفهم هذه العاصفة، لا بد من فهم القوى التي تحركها،
ينطلق إطارنا من أن “قانون الكون الأزلي هو التوازن”. والمجتمعات البشرية، كأي نظام حيوي، تسعى غريزيًا نحو حالة من التوازن بين قيمها ومؤسساتها وتوقعات أفرادها. وهو ما يمكن اعتباره صدى لمفهوم “التوازن الاجتماعي” (Social Equilibrium) في علم الاجتماع الكلاسيكي. هذا التوازن ليس حالة ثابتة جامدة، بل هو حالة من التدافع المستمر الذي يحافظ على استقرار النظام ككل ضمن نطاق يمكن احتماله.
يحدث “عدم التوازن” عندما يتعرض المجتمع لتغير هائل وسريع، يفوق قدرة مؤسساته وقيمه على التكيف والاستيعاب، أشبه بـ “طوفان” ثقافي أو اقتصادي. قد يكون هذا الطوفان ثورة تكنولوجية كـ الثورة الصناعية التي قلبت بنية المجتمعات الأوروبية، أو تحولاً قيميًا جذريًا كـالإصلاح البروتستانتي، أو صدمة اقتصادية عنيفة. إنه حدث يكسر العقد الاجتماعي القائم ويجعل قطاعات واسعة من المجتمع تشعر بأن الأرض تهتز تحت أقدامها وأن عالمها الذي تعرفه ينهار.
يولد “الطوفان” حالة عميقة من “عدم التوازن”. وهي حالة من التفكك المعياري تشبه إلى حد بعيد ما أسماه عالم الاجتماع المؤسس إميل دوركهايم بـ “الأنومي” (Anomie) . هذه الحالة ليست مجرد اختلاف في وجهات النظر، بل هي شعور وجودي بالقلق وفقدان المكانة والتهديد. يشعر جزء من المجتمع بأن قيمه وهويته ونمط حياته لم تعد محترمة أو ممكنة، وأن النظام الجديد يعمل ضده بشكل مباشر.
كرد فعل طبيعي وحتمي على “عدم التوازن”، تنشأ من رحم المجتمع “موجة عاتية” مضادة تسعى لاستعادة هذا التوازن المفقود. هذه الموجة ليست مجرد حركة معارضة سياسية تقليدية، بل هي حركة هوية ذات طابع وجودي تسعى لإعادة تعريف قواعد اللعبة الاجتماعية نفسها، وليس فقط الفوز ضمنها. وغالبًا ما يكون وقودها النفسي هو الشعور بـ “الحرمان النسبي” (Relative Deprivation) ، حيث ترى شريحة واسعة من المجتمع أن مكانتها وقيمها تتآكل مقارنة بالآخرين أو بالماضي.
هذا الشعور المشترك بالتهديد هو ما يولد “عصبية” جديدة، على حد تعبير ابن خلدون، توحد المجموعة في مواجهة الخطر المتصور. وهي ليست بالضرورة حركة رجعية، بل هي محاولة لإعادة تأكيد القيم والهويات التي شعر أصحابها أنها تعرضت للتهميش، وإيجاد توازن جديد يعيد لهم الشعور بالاستقرار والكرامة. تمامًا كما كان صعود الاشتراكية موجة مضادة للرأسمالية الصناعية الجامحة في القرن التاسع عشر.
ومن أهم الحركات أو الكتل التي تتأثر بهذا الطوفان، اليوم، هم: “كهنة اليمين الانجيليين” و”قبائل الغضب القوميين ” و ” المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية”، وهؤلاء يمثلون ” كتلة الولاء”.
و “كتلة الولاء” ليست كيانًا متجانسًا، بل هي تحالف معقد وغير مستقر من عدة “كتل” أو “قارات” تكتونية، لكل منها مصالحها، ومصادر قوتها، وسرديتها الخاصة. فهم الصراع الداخلي الحالي يتطلب فهم طبيعة هذه الكتل وكيفية تفاعلها وتصادمها.
1. الكتلة الدينية-اللاهوتية (“كهنة” اليمين):
- الوصف: هذه هي القاعدة العقدية والأيديولوجية الصلبة للمعسكر. هي لا تقدم مجرد دعم سياسي، بل تقدم “غطاءً إلهيًا” و”شرعية أخلاقية” للأجندة السياسية.
- مصدر قوتها: السيطرة على الوعي الروحي لملايين الناخبين، والشبكات المنظمة للكنائس، والمؤسسات التعليمية الدينية، والإمبراطوريات الإعلامية.
- أبرز ممثليها: جون هيغي (مهندس الصهيونية المسيحية) فرانكلين غراهام (وريث الشرعية التاريخية)، آل موهلر (العقل المفكر)، لانس والناو (نبي الحرب الروحية).
- الصدع الداخلي: هو الصدع الأخطر حاليًا، ويتجلى في الصراع بين “الولاء اللاهوتي” لإسرائيل، وبين “الولاء القومي” لـ “أمريكا أولاً” الذي بدأ ينمو بسبب قضايا مثل استهداف المسيحيين في فلسطين.
2. الكتلة الشعبوية-القومية (قاعدة “ماغا”):
- الوصف: هذه هي “القوة الضاربة” والطاقة البشرية للمعسكر. هي كتلة غاضبة تشعر بأنها تعرضت للخيانة من قبل “النخب” و”الدولة العميقة”.
- مصدر قوتها: الحشد الجماهيري، والولاء الشخصي للزعيم (ترامب)، والقدرة على تعطيل النظام عبر الاحتجاج والضغط الرقمي.
- أبرز ممثليها: تاكر كارلسون و كانديس أوينز (كمكبرات صوت)، والناشطون المؤثرون على وسائل التواصل الاجتماعي.
- الصدع الداخلي: الصراع بين “الولاء المطلق” لترامب، و”الولاء الأعمق” لنظرية المؤامرة، وهو ما رأيناه بوضوح في تمرد القاعدة على ترامب في قضية إبستين.
3. الكتلة المؤسسية-السياسية (الحزب الجمهوري التقليدي):
- الوصف: هذه هي البنية السياسية الرسمية للمعسكر. تتكون من السياسيين المحترفين، وجماعات الضغط، والمفكرين الاستراتيجيين الذين يديرون آلة الحزب.
- مصدر قوتها: السيطرة على المناصب التشريعية، والعلاقات العميقة مع المؤسسات الحكومية، والخبرة في اللعبة السياسية.
- أبرز ممثليها: “أيباك” (كجماعة ضغط)، والسياسيون مثل ليندسي غراهام، ومراكز الأبحاث المحافظة.
- الصدع الداخلي: هو الصراع بين “الواقعية السياسية” التي تسعى للحفاظ على التحالفات والنظام القائم، وبين “الراديكالية الشعبوية” للقاعدة التي تطالب بتدمير هذا النظام.
4. الكتلة المالية-الاقتصادية (نخبة رأس المال):
- الوصف: هذه هي “العضلة المالية” التي تمول المعسكر. تتكون من كبار المانحين، ورجال الأعمال، والشركات الكبرى التي تستفيد من سياسات خفض الضرائب وإلغاء القيود.
- مصدر قوتها: المال. القدرة على تمويل الحملات الانتخابية، أو التهديد بوقف هذا التمويل.
- أبرز ممثليها: “تحالف المانحين الجمهوريين”، شخصيات مثل روبرت مردوخ (قبل الانشقاق الأخير).
- الصدع الداخلي: هو الصراع بين الرغبة في “الاستقرار والقدرة على التنبؤ” (وهو ما يحتاجه رأس المال)، وبين “الفوضى” التي يخلقها الصراع الثقافي الشعبوي، وهو ما رأيناه في تهديد المانحين بوقف التمويل.
وسنقوم في هذه المساحة من رصد هذا التحول الذي يحدث، وذلك لأن له تأثير على العالم أجمع.
يعمل هذا المشروع في خضم بيئة إعلامية وسياسية تتسم بـ “السيولة المعرفية” و”حرب الروايات”. لم يعد الخبر مجرد نقل لوقائع، بل أصبح أداة في صراع ثقافي عميق يهدف إلى تشكيل الوعي وفرض واقع بديل. انطلاقًا من هذا التحدي، تأسس مشروع رصد “الطوفان الثقافي” لتقديم تحليل دوري لا يكتفي بسرد الأحداث، بل يغوص في أعماقها لكشف الديناميكيات الخفية، والتوجهات الفكرية، ومسارات الصراع.
الإطار النظري: العدسة التحليلية
كل عملية رصد وتحليل تخضع لإطار نظري موحد وواضح يعمل كـ “عدسة” نرى من خلالها الأحداث ونفسرها. هذا الإطار يضمن التماسك ويحول الرصد من عمل عشوائي إلى مشروع فكري متكامل.
- الفرضية المحورية (التوازن الثقافي): ننطلق من فرضية أن “التغير الثقافي هو طوفان وموجة عاتية في تشكيل المستقبل، وأن قانون الكون الأزلي هو التوازن. فإذا لم تنسجم الأمور مع الثقافة وقيمها فلا بد أن يحدث عدم توازن يسبب صراعًا”. كل حدث يُحلل باعتباره عرضًا من أعراض هذا الصراع الناتج عن اختلال التوازن.
- قطبا التحليل (ثقافة الولاء وثقافة العدالة): يتم تحليل الصراع من خلال تقسيمه إلى معسكرين رئيسيين، ليس كأحزاب بل كتيارات فكرية وقيمية:
- “ثقافة الولاء”: تمثل النظام المؤسسي القائم (الولاء للدولة، التحالفات التقليدية، رأس المال، البنى الاجتماعية القديمة). هدفها الحفاظ على الاستقرار والنظام القائم.
- “ثقافة العدالة): تمثل الموجة الشعبية والتغييرية (الولاء للقيم العالمية، حقوق الإنسان، العدالة الاجتماعية والبيئية، الهويات الجديدة). هدفها تفكيك النظام القائم وإعادة بنائه على أسس جديدة.
- المقياس الجوهري (العصبية الخلدونية): نستخدم مفهوم “العصبية” لابن خلدون كمقياس لدرجة التماسك الاجتماعي للدولة أو لأي من المعسكرين. “الطوفان الثقافي” يُحلل في جوهره كأزمة “عصبية” وجودية في الغرب، حيث تتآكل العصبية الوطنية الجامعة لصالح عصبيات فرعية متناحرة.
. الجذر التاريخي (الصدع التأسيسي الأمريكي): أي تحليل للساحة الأمريكية يجب أن يأخذ في الاعتبار أن “عدم التوازن” الحالي له جذور تاريخية في البنية النخبوية التأسيسية للولايات المتحدة، مما يجعل الصراع الحالي استمرارًا لصدوع قديمة.