في عالم الهندسة، عند اختبار صلابة هيكل معدني، يتم استخدام سائل كيميائي يُعرف بـ”صبغة الكشف”. يُسكب هذا السائل على السطح فيبدو بلا أثر، لكنه يتسرب إلى أعمق الشقوق والصدوع غير المرئية، ليجعلها فجأة واضحة للعيان. زيارة دونالد ترامب الأخيرة إلى المملكة المتحدة لم تكن حدثاً دبلوماسياً بقدر ما كانت “صبغة كشف” استراتيجية، سُكبت على السطح المصقول لـ”حصن النظام” الغربي، فكشفت عن شبكة من التصدعات العميقة التي تنذر بانهيار هيكلي وشيك.
لم تكن الزيارة سبباً لهذه الصدوع، بل كانت اللحظة التي لم يعد فيها تجاهلها ممكناً. لقد عملت كاختبار إجهاد وطني، أظهر بوضوح كيف أن “الطوفان الثقافي” لم يعد مجرد خلاف سياسي، بل هو حرب أهلية باردة تقسم المجتمع عمودياً. وقد ظهرت هذه التصدعات على ثلاث جبهات متزامنة.
الصدع الأول: الشارع ضد القصر
الصدع الأكثر وضوحاً كان مادياً، حيث انقسمت الأمة جغرافياً. ففي الخارج، وفي شوارع لندن، احتشد “معسكر العدالة” الشعبي. آلاف المتظاهرين الذين لا يمثلون مجرد معارضة سياسية، بل يمثلون ثقافة وقيم وهوية كاملة ترى في ترامب تجسيداً لكل ما هو بغيض: الشعبوية، والعنصرية، والتهديد للنظام الليبرالي. كان خروجهم فعل رفض ليس فقط لترامب، بل لقرار حكومتهم التي يرونها قد خانت قيمهم الأساسية.
وفي الداخل، خلف أسوار القصور وحواجز الشرطة، تحصّن “معسكر الولاء” الرسمي. ممثلاً في الحكومة والنخبة الحاكمة، كان منطق هذا المعسكر بارداً وعملياً: المصالح الاستراتيجية للدولة فوق كل اعتبار. هذا الانفصال المادي بين نخبة منعزلة تحتفل بضيفها، وقاعدة شعبية غاضبة تصرخ في الخارج، هو التجسيد الحي لمجتمع فقد تواصله مع نفسه، وتحول إلى دولتين نفسيتين تعيشان في مدينة واحدة.
الصدع الثاني: الفعل ضد القول
الصدع الثاني كان أعمق، لأنه أصاب قلب “معسكر الولاء” نفسه، وكشف عن حالة من النفاق الاستراتيجي. لقد قامت حكومة كير ستارمر بـ”فعل” تكريم ترامب ومنحه أقصى درجات الاحتفاء. لكن هذا الفعل يتناقض بشكل صارخ مع “قول” هذه الحكومة وقيمها المعلنة. فهي تدعم حل الدولتين الذي يعارضه ترامب، وتضع سياسات مناخية يسخر منها، وتدافع عن تعددية يهاجمها.
هذه الفجوة بين ما تفعله النخبة وما تدعي أنها تؤمن به هو صدع في شرعيتها الأخلاقية. إنه يُظهر للجماهير أن القيم التي يتغنى بها القادة ليست مبادئ صلبة، بل مجرد شعارات مرنة يمكن التضحية بها بسهولة على مذبح الصفقات والمصالح الآنية. عندما يفقد النظام صدقيته بهذه الطريقة، فإنه يبدأ بفقدان “ولاء” شعبه، ويتحول “الطوفان الثقافي” من مجرد احتجاج إلى أزمة ثقة كاملة في النظام.
الصدع الثالث: انهيار الرواية المشتركة
الصدع الأخطر والأخير كان في الفضاء الفكري، حيث أثبتت الزيارة أن بريطانيا، كغيرها من دول الغرب، فقدت القدرة على الاتفاق على معنى الأحداث. لم تكن هناك قصة وطنية واحدة للزيارة، بل روايتان متوازيتان ومتناقضتان تماماً.
في عالم “معسكر العدالة” الإعلامي، كانت الزيارة “وصمة عار” و”خيانة وطنية”. وفي عالم حلفاء “معسكر الولاء”، كانت نفس الزيارة “خطوة جريئة” و”انتصاراً للواقعية”. لم يكن ترامب مجرد رئيس يزور البلاد، بل كان رمزاً ثقافياً استُخدم من كل طرف لإثبات صحة عالمه الخاص ومهاجمة عالم الآخر.
هذا الانهيار في الرواية المشتركة هو أخطر أنواع التصدعات، لأنه يمثل بداية “النموذج الأندلسي”، حيث يتفكك المجتمع إلى “طوائف” فكرية منفصلة، لكل منها حقيقتها الخاصة وقيمها الخاصة. وعندما لا يعود هناك واقع مشترك، لا يمكن أن تكون هناك دولة مشتركة.
في النهاية، كانت زيارة ترامب الكاشفة لحظة من الوضوح المؤلم. لقد أظهرت أن الهيكل المعدني لليبرالية الغربية، الذي بدا لامعاً وقوياً لعقود، يعاني من إجهاد بنيوي وصدوع دقيقة في كل أجزائه. لقد أدت الصبغة الكاشفة دورها، والآن أصبحت التصدعات مرئية للجميع، مما يطرح السؤال الحتمي: كم من الوقت سيصمد هذا الهيكل قبل أن ينهار بالكامل؟
السلام عليكم ورحمة الله
جزاك الله خيرا على هذه التحليلات العميقة. وانها لعمل كبير بكريقة ابداعية غير مسبوقة ولعلها فاتحة عهد جديد في نشر الوعي والتصدي .
حسن القصاب
استاذ جامعي المملكة المغربية