في قلب النظام الدستوري الأمريكي، يوجد مبدأ مقدس هو “الفصل بين السلطات”، وهو مصمم لمنع تركز القوة في يد شخص واحد. تاريخياً، كانت “الأوامر التنفيذية” أداة استثنائية تُمنح للرئيس للتعامل مع الأزمات الطارئة. لكن في العقود الأخيرة، وبشكل خاص في خضم “الطوفان الثقافي” الذي يجتاح أمريكا، تحولت هذه الأداة من حل للطوارئ إلى “معول” منهجي يُستخدم لهدم أسس الديمقراطية التداولية وتكريس حكم الفرد.

إن النقاش حول تضخم السلطة الرئاسية ليس جديداً. ففي عام 1973، وفي أعقاب حرب فيتنام وفضيحة ووترغيت، صاغ المؤرخ البارز ومستشار الرئيس كينيدي، آرثر شليسنغر الابن، مصطلح “الرئاسة الإمبراطورية”. حذر شليسنغر في كتابه الكلاسيكي من أن الرئاسة بدأت تتجاوز حدودها الدستورية، خاصة في شؤون الحرب والسياسة الخارجية، وتستولي على صلاحيات الكونغرس. لقد رأى أن الدستور، الذي وصفه المفكر إدوارد كورwin بأنه “دعوة للصراع” على السلطة بين الرئيس والكونغرس، بدأ يميل بشكل خطير لصالح الرئيس.

ما كان في زمن شليسنغر ناقوس خطر، أصبح اليوم واقعاً معيشاً. فالشلل التام في الكونغرس، الناتج عن “الحرب الأهلية الإدراكية”، قد خلق فراغاً هائلاً في السلطة. وكما يجادل مفكرون معاصرون مثل بنيامين غينسبرغ، فإن ترامب ليس ظاهرة شاذة، بل هو التطور المنطقي لعقود من توسع السلطة التنفيذية التي تسارعت بشكل هائل بعد أحداث 11 سبتمبر، كما وثق الصحفي تشارلي سافاج، حيث استخدم الرؤساء “الحرب على الإرهاب” كذريعة لتجاوز القانون عبر الأوامر التنفيذية والمراسيم السرية.

شلل الكونغرس: الفراغ الذي استدعى “القيصر”

في هذا السياق، يظهر الرئيس كـ”الرجل القوي” الوحيد القادر على “إنجاز الأمور”، ويصبح الأمر التنفيذي هو سلاحه المفضل. إنه يقدم نفسه كمنقذ يتجاوز “المستنقع” الفاسد في واشنطن ليلبي “إرادة الشعب” بشكل مباشر. لكن هذا التجاوز، وإن كان يبدو فعالاً على المدى القصير، إلا أنه يأتي بتكلفة باهظة: تآكل الديمقراطية نفسها.

إن التوجه المستقبلي واضح ومقلق. فمع كل رئيس جديد يلغي أوامر سلفه ويصدر أوامره الخاصة، يتحول النظام السياسي تدريجياً إلى “جمهورية قيصرية”. تفقد القوانين استقرارها، وتصبح السياسة الخارجية رهينة لنزوات شخص واحد، وتفقد الدولة مصداقيتها على الساحة العالمية.

تشخيص مالك بن نبي 

هذا التحول الدستوري ليس مجرد أزمة سياسية، بل هو العَرَض المادي لمرض حضاري أعمق، وهو ما يمكن فهمه بوضوح عبر ربط هذه الظاهرة بما قاله مالك بن نبي عن “شلل اللافعالية” كحالة تصل إليها الحضارة عندما تتفكك الروابط بين “عالم الأفكار”، “عالم الأشخاص”، و”عالم الأشياء”. 

الكونغرس المشلول اليوم هو التجسيد المثالي لهذا المفهوم: مؤسسة تمتلك كل المكونات (أشخاص منتخبون، أفكار مطروحة، وموارد) لكنها عاجزة عن “تركيبها” في مشروع فعال. هذا “الشلل الحضاري” هو الذي يخلق الظروف المثالية لصعود “الزعيم الشعبوي” الذي يستغل “الفراغ الداخلي” لدى الجماهير، ويقدم لهم “اليقين” و”الحسم” في مواجهة “الفوضى” التي خلقتها المؤسسات المشلولة.

إن تحويل المعاهدات الدولية إلى “اتفاقيات شخصية“، كما حدث في الاتفاق مع اليابان وغيرها، هو بالضبط ما يحدث عندما ينفصل “عالم الأشخاص” (في هذه الحالة شخص الرئيس) عن “عالم الأفكار” (المتمثل في الدستور والقانون الدولي). يصبح الفعل السياسي مجرد تعبير عن إرادة فرد، وليس تجسيداً لقيم ومبادئ مشتركة.الخلاصة: إن “معول الأوامر التنفيذية” ليس هو المرض، بل هو الأداة التي يستخدمها “الطوفان الثقافي” لهدم ما تبقى من هيكل النظام القديم. ومع كل ضربة من هذا المعول، تنمو نبتة “الرئيس الفرد” وتتسع، بينما تتراجع شجرة الديمقراطية وتذبل. إنه يكشف عن حضارة فقدت “عصبيتها” وتماسكها الاجتماعي، وأصبحت عاجزة عن حل خلافاتها عبر الحوار المؤسسي، فلجأت إلى منطق القوة الفردية. وكما حذر الكتاب، فإن الحضارة التي تبني عالماً خارجياً معقداً وتترك الإنسان في الداخل فارغاً، وتفشل في هندسة التوازن بين مكوناتها، هي حضارة تتجه حتماً نحو الشلل، ومن رحم هذا الشلل يولد دائماً حكم الفرد.