نقف اليوم أمام صروحٍ زجاجية تناطح السحاب، ونمشي في مدنٍ ذكية تَعِدُ باليُسر والكفاءة، نحتفي بلغة الأرقام، ونحتفل بارتفاع مؤشرات الناتج المحلي، ونرسل أبناءنا ليتعلموا أحدث علوم الهندسة والبرمجة والمال. هذا هو وجه التنمية اللامع الذي نعرفه ونبتغيه. لكن خلف هذا البريق، يتردد سؤال مقلق، همسٌ خافت يوشك أن يتحول إلى صرخة: ماذا عن تنمية الإنسان؟

في خضم سباقنا المحموم نحو العمران المادي، يبدو أننا نسينا «عمران الروح». لقد استثمرنا في كل ما هو «صلب» – الحجر والتقنية – وأهملنا بشكل خطير كل ما هو «ناعم»: الثقافة، والفكر، والهوية.

نحن ندفع ثمن هذا الإهمال غالياً اليوم، فعندما تُهمل العلوم التي تدرس الإنسان والمجتمع والثقافة والتاريخ، يفقد المجتمع قدرته على فهم ذاته، وتشخيص أمراضه، وتحديد هويته في عالم متغير، نصبح كمن يمتلك أحدث جهاز «رادار» لكنه لا يملك «بوصلة»؛ نرى ما حولنا بوضوح، لكننا لا نعرف إلى أين نتجه.

الفراغ الذي لا تملؤه الأبراج
إن إهمال العلوم الإنسانية ليس مجرد خطأ أكاديمي، بل هو خطيئة إستراتيجية تخلق فراغاً هائلاً في قلب المجتمع، هذا الفراغ هو ما نشهده اليوم يتجسد في أشكال عدة: اغتراب ثقافي، وتفكك اجتماعي، وسطحية في الطرح.

تفقد المجتمعات قدرتها على طرح الأسئلة الكبرى حول معناها وغايتها ومستقبلها. لماذا نحن هنا؟ ما الذي يجمعنا؟ ما هي قصتنا التي سنرويها لأبنائنا؟

وحين تغيب هذه الأسئلة العميقة، يمتلئ الفراغ بالضجيج السطحي. «تتحول المجتمعات إلى مجرد تجمعات استهلاكية تفتقر إلى البوصلة الأخلاقية والروحية التي توجه مسيرتها». يصبح النجاح مجرد رقم في حساب بنكي، والسعادة مجرد سلعة تُشترى، والتنمية مجرد واجهات براقة تخفي خواءً داخلياً.

لماذا وصلنا إلى هنا؟ لماذا تخشى بعض مجتمعاتنا من الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع؟

الجواب يكمن في أن هذه العلوم هي «علوم السؤال» بامتياز. إنها لا تقدم إجابات جاهزة، بل تُعلّم «كيف نفكر»، لا «بماذا نفكر». هي بطبيعتها ناقدة، باحثة، ومقلقة للساكن. وهذا يتعارض بشكل مباشر مع البيئة التي يفرضها الاستبداد السياسي ومصادرة حرية الفكر والتعبير.

هذه البيئة الخانقة «هي التي تخنق أي نشاط علمي جاد في مجال العلوم الإنسانية، فالخوف من السؤال النقدي لا يقتل المعارضة السياسية فحسب، بل يقتل «روح» المجتمع بأكملها، إنه يغتال قدرتنا على النقد الذاتي، وعلى فهم أخطائنا، وعلى تجديد ثقافتنا، هذا ما يمكن تسميته بـ «النكوص الحضاري»؛ أن نملك كل أدوات التقدم المادي، لكننا نفقد الحكمة والروح التي تقود هذا التقدم.

التنمية المبتغاة: توازن الجسد والروح
إن التنمية الحقيقية التي نبتغيها ليست اختياراً بين ناطحة سحاب وكتاب تاريخ، إنها ليست مفاضلة بين المهندس والفيلسوف، التنمية المبتغاة هي «التوازن»؛ أن نبني جسداً قوياً (العمران المادي) تسري فيه روحٌ واعية وأصيلة (الثقافة والهوية).

نحن بحاجة ماسة لإعادة الاعتبار لهذه العلوم المنسية. نحتاج أن نعلّم أبناءنا الفلسفة كما نعلّمهم الفيزياء، وأن نفخر بمؤرخينا كما نفخر بمهندسينا، نحتاج أن ندرك أن «رأس المال الاجتماعي» و»الثقة» و»الانتماء» هي أصول لا تقل أهمية عن آبار النفط وأسواق المال.

إن التنمية التي لا تبني الإنسان أولاً، هي تنمية عرجاء، مهما بدت شاهقة. فمصيرها أن تنهار، ليس في أساساتها الخرسانية، بل في أساسها الإنساني. والتحدي الأكبر أمامنا هو أن نبني مجتمعات تملك بوصلة قبل أن تملك «راداراً»، وتعرف لماذا تعيش، قبل أن تعرف كيف تستهلك.

هذه البيئة الخانقة «هي التي تخنق أي نشاط علمي جاد في مجال العلوم الإنسانية، فالخوف من السؤال النقدي لا يقتل المعارضة السياسية فحسب، بل يقتل «روح» المجتمع بأكملها، إنه يغتال قدرتنا على النقد الذاتي، وعلى فهم أخطائنا، وعلى تجديد ثقافتنا، هذا ما يمكن تسميته بـ «النكوص الحضاري»؛ أن نملك كل أدوات التقدم المادي، لكننا نفقد الحكمة والروح التي تقود هذا التقدم.

التنمية المبتغاة: توازن الجسد والروح
إن التنمية الحقيقية التي نبتغيها ليست اختياراً بين ناطحة سحاب وكتاب تاريخ، إنها ليست مفاضلة بين المهندس والفيلسوف، التنمية المبتغاة هي «التوازن»؛ أن نبني جسداً قوياً (العمران المادي) تسري فيه روحٌ واعية وأصيلة (الثقافة والهوية).

نحن بحاجة ماسة لإعادة الاعتبار لهذه العلوم المنسية. نحتاج أن نعلّم أبناءنا الفلسفة كما نعلّمهم الفيزياء، وأن نفخر بمؤرخينا كما نفخر بمهندسينا، نحتاج أن ندرك أن «رأس المال الاجتماعي» و»الثقة» و»الانتماء» هي أصول لا تقل أهمية عن آبار النفط وأسواق المال.

إن التنمية التي لا تبني الإنسان أولاً، هي تنمية عرجاء، مهما بدت شاهقة. فمصيرها أن تنهار، ليس في أساساتها الخرسانية، بل في أساسها الإنساني. والتحدي الأكبر أمامنا هو أن نبني مجتمعات تملك بوصلة قبل أن تملك «راداراً»، وتعرف لماذا تعيش، قبل أن تعرف كيف تستهلك.

مصنَّف ضمن:

اسلام اون لاين, مقالات,