هل سبق لك أن جلست في اجتماع عمل، ونظرت إلى اللوائح المعقدة المعلقة على الحائط، أو التقارير الدورية التي يطلبها النظام، وشعرت بأن كل هذا “حبر على ورق”؟
كثيرون منا يشعرون بهذا. نرى مؤسساتنا، سواء كانت خيرية أو خاصة أو حتى حكومية، تستثمر الملايين في استيراد أحدث النظم الإدارية وبرامج “الحوكمة الرشيدة”. يُكتب كل شيء بدقة: إجراءات التوظيف، آليات التقييم، نماذج الإفصاح عن تضارب المصالح، ومؤشرات الأداء (KPIs). ومع ذلك، بعد فترة قصيرة، تتحول هذه النظم اللامعة إلى مجرد “أوراق حبيسة الأدراج”.
لماذا يحدث هذا؟
الجواب السهل هو اتهام الناس بأنهم “يقاومون التغيير” أو “لا يحبون النظام”. لكن هذا التشخيص سطحي وغير عادل. المشكلة في كثير من الأحيان ليست في النوايا، فغالباً ما تكون النوايا طيبة. المشكلة الحقيقية أن هذه الأنظمة المستوردة تتحدث بلغة لا نفهمها، أو الأسوأ من ذلك، تتصادم مع قيم أعمق تحكم سلوكنا الفعلي.
في سياقنا الخليجي، نحن لا نُدار فقط بالهياكل التنظيمية. نحن نُدار بشبكة معقدة من “المعاني” غير المكتوبة: “المقام”، “الاحترام”، “حفظ ماء الوجه”، وقوة “العلاقات الشخصية”.
حين يصطدم “النظام” بـ “المجلس”
خذ هذا المثال الواقعي: قد تنص لائحة الحوكمة الرسمية على أن “جميع القرارات الاستراتيجية يجب أن تُتخذ حصراً داخل اجتماع مجلس الإدارة الرسمي”. لكن في واقعنا، يعلم الجميع أن القرارات الحقيقية قد “نضجت” وتم الاتفاق عليها مسبقاً في “مجلس الظل” – ربما في “مجلس/ ديوانية” أحد الأعضاء المؤثرين أو في لقاء ودي قبل الاجتماع.
عندما يأتي النظام المستورد ويتجاهل هذه القناة الثقافية (المجلس أو الديوانية) ويعتبرها “غير مهنية” أو “تحايلاً”، فإنه لا يلغيها، بل ببساطة يدفعها للعمل في الخفاء، ويصبح الاجتماع الرسمي مجرد “مسرح” لتمرير ما تم الاتفاق عليه. النظام هنا لم يفشل لقلة دقته، بل لأنه اصطدم بقيمة “بناء التوافق” و”حفظ ماء الوجوه” التي نجلّها في ثقافتنا.
حين يطلب “الإجراء” ما ترفضه “النية”
مثال آخر: في كثير من مؤسساتنا، خاصة الخيرية، المحرك الأساسي هو “النية الطيبة” و”الثقة المتبادلة”. نحن نعمل بروح “الأهل” و”الجماعة الواحدة”.
فجأة، يأتي نظام إداري يطالب الجميع بملء نماذج معقدة لكل إجراء بسيط، ويضع آليات رقابة صارمة تفترض “سوء النية” مسبقاً. هنا، لا يشعر الموظف بأن النظام يساعده، بل يشعر بأنه “متهم” وبأن الإدارة لا تثق به. رد الفعل الطبيعي هو التحايل على هذا النظام الذي يتحدث بلغة “الشك” بدلاً من لغة “الأمانة”.
الحل: الانتقال من “حوكمة الإجراءات” إلى “حوكمة المعنى”
المشكلة إذن ليست في وجود نظام، فالفوضى ليست خياراً. المشكلة في استيراد نظام لا يملك “روحاً” تُشبهنا.
نحن لا نحتاج إلى التخلص من الحداثة، ولا إلى التمسك بالتقليد الذي يعيقنا. نحن بحاجة إلى “نموذج ثالث” أصيل: “حوكمة المعنى”.
“حوكمة المعنى” هي ببساطة بناء أنظمة وإجراءات تستلهم روحها من قيمنا. إنها حوكمة تستخدم أدوات العصر الحديثة (كالتقنية ومؤشرات الأداء) بوعي وحكمة، ليس كأهداف في حد ذاتها، بل كخدم لمقاصدنا السامية.
عندما نصمم نظاماً يتحدث لغتنا، ويحترم قيمنا، ويساعدنا على تحقيق “المعنى” من وجودنا، لن نحتاج لإجبار الناس على اتباعه. سيصبح النظام جزءاً منا، نحميه وندافع عنه لأنه يعبر عنا ويحفظ “البركة” في أعمالنا.