ملخص تنفيذي

يشهد الاقتصاد العالمي، وبشكل خاص اقتصاد الولايات المتحدة، لحظة تحول تاريخية مدفوعة بما يسمى “اقتصاد الذكاء الاصطناعي”. يتميز هذا التحول بتناقض صارخ: فمن ناحية، تقوم شركات التكنولوجيا الأكثر قيمة في العالم بتسريح مئات الآلاف من الموظفين ذوي المهارات العالية؛ ومن ناحية أخرى، تضخ هذه الشركات نفسها مئات المليارات من الدولارات في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي. يقدم هذا التقرير تحليلاً استراتيجياً معمقاً لهذا التناقض، ويفحص فرضيتين متعارضتين تفسران هذه الظاهرة.

الفرضية الأولى، “اقتصاد الوهم”، ترى أن الطفرة الحالية في الذكاء الاصطناعي هي فقاعة مالية ، تغذيها سردية النمو المستقبلية بدلاً من الأرباح الفعلية. يخلق هذا النموذج حلقة إنفاق مغلقة بين عدد قليل من عمالقة التكنولوجيا، مما يؤدي إلى تضخيم تقييماتهم السوقية بشكل مصطنع، ويعرض مدخرات التقاعد الأمريكية لمخاطر نظامية، ويكرر نمطاً تاريخياً من التدمير الاقتصادي للطبقة الوسطى.

الفرضية الثانية، “الضرورة الجيوسياسية”، تجادل بأن هذا الإنفاق الهائل ليس اختيارياً، بل هو استجابة حتمية لسباق تسلح تكنولوجي وجودي ضد الصين. من هذا المنظور، فإن عمليات التسريح هي “آلام تطور” ضرورية لإعادة توجيه الموارد الوطنية نحو ساحة المعركة الحاسمة في القرن الحادي والعشرين، وتعتبر هيمنة شركات التكنولوجيا الأمريكية “أصلاً استراتيجياً للأمن القومي”.

يخلص التحليل إلى أن كلتا الفرضيتين صحيحتان في آن واحد، مما يضع الولايات المتحدة في “كماشة استراتيجية” لا يمكن الفوز بها. فمن جهة، يؤدي الإنفاق على الذكاء الاصطناعي إلى تآكل النسيج الاجتماعي والاقتصادي من الداخل، وتعميق الانقسامات، وتدمير “الاقتصاد الحقيقي”. ومن جهة أخرى، فإن التوقف عن هذا الإنفاق يعني التنازل الفوري عن التفوق التكنولوجي والعسكري للصين. ومما يزيد هذا المأزق تعقيداً أن هذه الآلة المالية والعسكرية التي تبلغ قيمتها تريليونات الدولارات تعتمد بشكل خطير على نقطة ضعف قاتلة واحدة: مصانع شركة TSMC في تايوان، وهي واحدة من أكثر البؤر الجيوسياسية اشتعالاً في العالم. إن الولايات المتحدة تسير في نفق مظلم، حيث تضطر إلى التضحية بتماسكها الداخلي لتمويل سباق لا تستطيع التوقف عنه، وكل ذلك وهي تعتمد على سلسلة إمداد هشة للغاية.

القسم الأول: الانفصال العظيم: تشخيص الفصام الاقتصادي الأمريكي

إن المشهد الاقتصادي الأمريكي في عام 2025 يعرض صورة من الفصام الحاد. ففي الوقت الذي تصل فيه تقييمات شركات التكنولوجيا الكبرى إلى مستويات فلكية، وتتعهد بإنفاق مئات المليارات على مستقبل الذكاء الاصطناعي، فإنها في الوقت نفسه تتخلى عن رأسمالها البشري على نطاق واسع. هذا التناقض بين السردية المالية المزدهرة والواقع الإنساني المؤلم هو العَرَض الأساسي الذي يتطلب تشخيصاً دقيقاً قبل تحليل أسبابه العميقة.

1.1 حملة التطهير لعام 2025: تحديد التكلفة البشرية

شهد قطاع التكنولوجيا موجة تسريح كبرى ومستمرة. حتى أكتوبر 2025، تم تسريح أكثر من 180,000 موظف في قطاع التكنولوجيا على مستوى العالم، وشكلت الشركات الأمريكية ما يقرب من ثلثي هذا الرقم، بإجمالي 119,368 وظيفة ملغاة.1 وتؤكد مصادر أخرى هذا الاتجاه، حيث تشير منصة Layoffs.fyi إلى تسريح أكثر من 112,000 موظف من 218 شركة تكنولوجية خلال العام.2 هذه الأرقام لا تمثل مجرد إحصائيات، بل هي إشارة إلى تحول استراتيجي جذري لدى قادة الصناعة.

لم تكن عمليات التسريح مقتصرة على الشركات الناشئة المتعثرة، بل كانت بقيادة عمالقة الصناعة أنفسهم، الذين يتمتعون بميزانيات عمومية قوية وأرباح قياسية:

  • إنتل: أعلنت عن خطط لتسريح ما بين 21,000 و 25,000 موظف، أي ما يصل إلى 24% من قوتها العاملة العالمية، في محاولة لخفض التكاليف والتركيز على الذكاء الاصطناعي.1
  • مايكروسوفت: قامت بإلغاء 15,000 وظيفة على عدة مراحل، شملت أقساماً حيوية مثل الحوسبة السحابية (Azure) والمبيعات والهندسة.1
  • أمازون: أعلنت عن تسريح 14,000 موظف في قطاع الشركات، وهي من أكبر عمليات الخفض في تاريخها، مع تأثيرات واسعة في أقسام مثل AWS و Prime Video.7
  • ميتا: استغنت عن ما بين 5,000 و 7,000 موظف من فرق غير أساسية، معلنةً صراحةً عن تحويل تركيزها من زيادة عدد الموظفين إلى الاستثمار في الذكاء الاصطناعي.1

إن ما يميز هذه الموجة من التسريح هو أنها لا تستهدف العمال ذوي المهارات المنخفضة، بل تطال مهندسي البرمجيات، ومديري المنتجات، وخبراء البيانات، أي الطبقة الوسطى المتعلمة التي كانت تعتبر العمود الفقري لاقتصاد المعرفة. هذه ليست علامة على ضعف اقتصادي بالمعنى التقليدي، بل هي قرار استراتيجي متعمد لإعادة تخصيص الموارد.

1.2 سردية الكفاءة: تفكيك خطاب الشركات

إن الخطاب الرسمي الذي يرافق عمليات التسريح هذه لا يقل أهمية عن الأرقام نفسها. فالرؤساء التنفيذيون لا يقدمون هذه القرارات على أنها فشل، بل على أنها دليل على البصيرة الاستراتيجية والقوة. يتم تأطير التخلي عن آلاف الموظفين باستمرار على أنه “إعادة هيكلة” أو “إعادة تنظيم” ضرورية لتمويل الثورة القادمة في الذكاء الاصطناعي.

  • مبرر أمازون: أوضحت بيث غاليتي، نائبة الرئيس الأولى في أمازون، أن الهدف هو جعل الشركة “أكثر مرونة وأقل بيروقراطية، مع عدد أقل من الطبقات وملكية أكبر، للتحرك بأسرع ما يمكن” في عصر الذكاء الاصطناعي، الذي وصفته بأنه “أكثر التقنيات تحولاً منذ الإنترنت”.2 هذا الخطاب يحول عملية تسريح مؤلمة إلى قصة عن السرعة والابتكار.
  • مبرر مايكروسوفت: ربطت الشركة بشكل مباشر بين خفض الوظائف و “الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي”.6 الرسالة واضحة: يتم التضحية بالوظائف الحالية لتمويل الأصول التكنولوجية المستقبلية.
  • الخطاب العام للرؤساء التنفيذيين: هناك إجماع متزايد بين قادة الصناعة، من بنك “جي بي مورغان” إلى شركة “فورد”، على أن الذكاء الاصطناعي سيحل محل أجزاء كبيرة من القوى العاملة من ذوي الياقات البيضاء. هذه التصريحات لم تعد تحذيرات هامشية، بل أصبحت جزءاً من التوقعات الرسمية للشركات، مما يعمل على تطبيع فكرة التدمير الوظيفي كجزء لا مفر منه من التقدم التكنولوجي.11

لقد نجحت هذه السردية في عكس المنطق التقليدي للسوق. فبدلاً من أن تكون عمليات التسريح الجماعي علامة على أزمة تدفع المستثمرين إلى القلق، أصبحت تُفسر على أنها علامة على الانضباط المالي والتوجه الاستراتيجي نحو المستقبل، وغالباً ما تكافأ بارتفاع أسعار الأسهم. لقد تم فصل صحة الشركة عن استقرار قوتها العاملة في أذهان المستثمرين والجمهور.

1.3 الطوفان الرأسمالي: سردية مضادة من الإنفاق غير المسبوق

في مقابل التكلفة البشرية، يظهر طوفان من الإنفاق الرأسمالي الموجه نحو الذكاء الاصطناعي، مما يكشف عن الحجم الحقيقي للانفصال الاقتصادي. تجاوز إنفاق شركات التكنولوجيا الأربع الكبرى وحدها 155 مليار دولار في عام 2025، مع توقعات بأن يتجاوز 400 مليار دولار في العام التالي.12

  • مايكروسوفت: قفزت نفقاتها الرأسمالية بنسبة 74% في الربع الأول من السنة المالية، حيث بلغ إنفاقها على البنية التحتية للذكاء الاصطناعي مستوى قياسياً وصل إلى 35 مليار دولار في الربع الثالث وحده.14 وتعتزم الشركة إنفاق 80 مليار دولار على الذكاء الاصطناعي في عام 2025.6
  • أمازون: تعهدت باستثمار 100 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي، وهو الرقم الذي استخدمته لتبرير تسريح 14,000 موظف.8 وتشير التوقعات إلى أن نفقاتها الرأسمالية الإجمالية ستبلغ حوالي 118 مليار دولار في عام 2025، مع تخصيص جزء كبير منها للبنية التحتية للذكاء الاصطناعي والسحابة.10
  • الإنفاق الإجمالي المتوقع: تشير التوقعات إلى أن إجمالي الإنفاق على البنية التحتية للذكاء الاصطناعي من قبل أمازون، OpenAI، مايكروسوفت، جوجل، وميتا قد يصل إلى 420 مليار دولار في عام 2025 وحده.16

هذا التناقض الصارخ بين خفض النفقات التشغيلية (الرواتب) وزيادة النفقات الرأسمالية (البنية التحتية للذكاء الاصطناعي) ليس مجرد تحول في الميزانية، بل هو تحول فلسفي. إنه يعكس عقيدة جديدة في وادي السيليكون مفادها أن رأس المال البشري أصبح نفقة يمكن الاستغناء عنها لتمويل الأصول الرأسمالية غير البشرية التي يُعتقد أنها ستحقق النمو المستقبلي.

الشركةالموظفون المسرحون (2025)الاستثمار المعلن في الذكاء الاصطناعي/النفقات الرأسمالية (2025)المبرر الرسمي (مقتبس)
إنتل21,000 – 25,000غير محدد، ولكن مرتبط بالتحول نحو الذكاء الاصطناعي“خفض التكاليف… التحول نحو الذكاء الاصطناعي” 1
مايكروسوفت15,00080 مليار دولار“خفض التكاليف وسط استثمارات ضخمة في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي” 6
أمازون14,000100 مليار دولار“تنظيم أعمالنا بشكل أكثر مرونة… للاستثمار في أهم رهاناتنا بما في ذلك الذكاء الاصطناعي” 8
ميتا5,000 – 7,00065 مليار دولار“الاستثمار في الذكاء الاصطناعي بدلاً من زيادة عدد الموظفين” 1
جوجل (ألفابت)1,000 – 2,00075 مليار دولار“إعطاء الأولوية للذكاء الاصطناعي” [1, 16]

القسم الثاني: الفرضية (أ) – اقتصاد الوهم: دورة تدمير ذاتي

تفترض هذه الفرضية أن الاندفاع المحموم نحو الذكاء الاصطناعي ليس ثورة إنتاجية حقيقية، بل هو بناء مالي هائل ومعقد، أو “اقتصاد وهمي”. يعمل هذا الاقتصاد كحلقة مغلقة، حيث يتم تدوير رأس المال بين عدد قليل من الشركات العملاقة، مما يخلق وهم النمو والابتكار بينما يتم في الواقع استنزاف الاقتصاد الحقيقي وتدمير الثروة المستقرة للطبقة الوسطى. إنها آلية لا تهدف إلى تحقيق أرباح واسعة النطاق بقدر ما تهدف إلى إدامة سردية النمو التي تدعم التقييمات السوقية المتضخمة.

2.1 الحلقة المغلقة للسبعة العظام: إعادة تدوير التريليونات

يكمن جوهر “اقتصاد الوهم” في الطريقة التي يتم بها إنفاق مئات المليارات من الدولارات المخصصة للذكاء الاصطناعي. بدلاً من أن تتدفق هذه الأموال إلى الاقتصاد الأوسع من خلال خلق وظائف جديدة أو الاستثمار في شركات صغيرة ومتوسطة، يتم تدوير جزء كبير منها داخل نظام بيئي مغلق تهيمن عليه “السبعة العظام” (The Magnificent 7 – M7).17

تعمل هذه الآلية على النحو التالي:

  1. الإنفاق الرأسمالي يصبح إيراداً: عندما تعلن مايكروسوفت عن إنفاق رأسمالي بقيمة 80 مليار دولار، فإن جزءاً كبيراً من هذا المبلغ يذهب مباشرة إلى إنفيديا لشراء وحدات معالجة الرسومات (GPUs) الضرورية لتدريب وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي.15 وبالتالي، فإن “الإنفاق” الذي تقوم به مايكروسوفت يتحول إلى “إيرادات” قياسية لإنفيديا.
  2. شراء الخدمات من المنافسين: شركات مثل آبل و ميتا، بدلاً من بناء بنيتها التحتية السحابية بالكامل، تستأجر سعة حوسبة هائلة من خدمات أمازون ويب (AWS) و غوغل كلاود. هذا يعني أن جزءاً من استثماراتهم في الذكاء الاصطناعي يتدفق مباشرة كإيرادات إلى منافسيهم داخل مجموعة السبعة العظام.
  3. التحقق الدائري: إن الإيرادات المتزايدة لشركة إنفيديا، والتي تأتي بشكل أساسي من زملائها في مجموعة السبعة العظام، تستخدم بعد ذلك لتبرير تقييمها السوقي الفلكي. وبالمثل، فإن النمو في قطاعات الحوسبة السحابية لأمازون ومايكروسوفت، المدفوع بطلب الذكاء الاصطناعي من الشركات الأخرى (بما في ذلك أعضاء آخرون في M7)، يدعم تقييماتهم. وبهذه الطريقة، فإن إنفاق المجموعة يبرر تقييمات المجموعة، مما يخلق حلقة مفرغة من التحقق المالي الذاتي الذي يبدو معزولاً بشكل متزايد عن الاقتصاد الحقيقي.

هذه الدورة لا تخلق قيمة اقتصادية جديدة صافية بالمعنى التقليدي، بل تعيد توزيع الثروة داخل قمة الهرم الاقتصادي، مما يزيد من تركيز القوة السوقية ورأس المال بشكل لم يسبق له مثيل.

2.2 تقييمات منفصلة عن الواقع: فقاعة مدفوعة بالسردية

إن النتيجة المباشرة لهذه الحلقة المغلقة هي انفصال تقييمات أسهم “السبعة العظام” عن أي مقياس تقليدي للقيمة. لقد أصبحت هذه الأسهم مدفوعة بسردية “النمو المستقبلي اللامتناهي” للذكاء الاصطناعي، وليس بالأرباح الحالية الموزعة على نطاق واسع.

  • التقييمات الفلكية: بلغت القيمة السوقية المجمعة لـ “السبعة العظام” أكثر من 17 تريليون دولار، وهو رقم يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي لمعظم دول العالم.20
  • مضاعف الربحية (P/E Ratio): يكشف هذا المقياس المالي عن حجم الفقاعة. ففي أكتوبر 2025، بلغ متوسط مضاعف الربحية لأسهم “السبعة العظام” 29 ضعفاً. في المقابل، بلغ مضاعف الربحية لمؤشر S&P 500 بأكمله 22 ضعفاً، وإذا تم استبعاد “السبعة العظام”، فإن مضاعف الربحية لبقية السوق (الـ 493 شركة الأخرى) يبلغ 19 ضعفاً فقط.21 هذا الفارق الكبير يعني أن المستثمرين على استعداد لدفع علاوة ضخمة مقابل أسهم “السبعة العظام” بناءً على توقعات النمو المستقبلية، وهو السلوك الكلاسيكي الذي يميز الفقاعات المالية.
  • انفصال التقييم عن الأرباح: على الرغم من أن تقييمات أسهمهم ارتفعت بنسبة 60% في عامين فقط، إلا أن مساهمة “السبعة العظام” في إجمالي أرباح مؤشر S&P 500 انخفضت بالفعل من حوالي 20% قبل عقد من الزمان إلى 15% اليوم.22 هذا التباين هو أخطر مؤشر على أن الأسعار مدفوعة بالضجيج والتوقعات أكثر من الأداء الاقتصادي الأساسي.

2.3 أزمة رهائن صناديق التقاعد (401k): تعميم المخاطر

إن خطورة هذه الفقاعة لا تقتصر على المستثمرين المتخصصين، بل تمتد لتشمل كل مواطن أمريكي تقريباً لديه مدخرات للتقاعد. لقد أصبحت صناديق التقاعد الأمريكية رهينة لهذا الرهان عالي المخاطر.

  • التركيز المفرط في المؤشرات: يشكل “السبعة العظام” الآن ما يقرب من 34% من القيمة السوقية الإجمالية لمؤشر S&P 500، ارتفاعاً من حوالي 10% فقط قبل عقد من الزمان.23
  • الاستثمار السلبي: يعتمد الغالبية العظمى من الأمريكيين على صناديق المؤشرات المتداولة (ETFs) وصناديق الاستثمار المشتركة التي تتبع مؤشر S&P 500 كاستراتيجية استثمار أساسية في حسابات التقاعد الخاصة بهم (401k و IRA). هذا يعني أنه في كل مرة يساهم فيها موظف في خطة التقاعد الخاصة به، يتم تخصيص أكثر من ثلث استثماره تلقائياً لهذه الشركات السبع.26
  • المخاطر النظامية: لقد حول هذا التركيز الهائل ما كان يُعتبر استراتيجية استثمار آمنة ومتنوعة (شراء السوق بأكمله) إلى رهان مركّز بشكل خطير على قطاع واحد ومجموعة صغيرة من الشركات. إن أي تصحيح كبير في تقييمات “السبعة العظام” لن يؤثر فقط على وول ستريت، بل سيمحو جزءاً كبيراً من مدخرات التقاعد لملايين الأمريكيين، مما يخلق أزمة نظامية محتملة. إن أمنهم المالي المستقبلي مرتبط الآن بشكل مباشر باستمرارية سردية الذكاء الاصطناعي.

2.4 صدى التاريخ: التصنيع العكسي الجديد

إن ما نشهده اليوم ليس ظاهرة جديدة تماماً، بل هو تكرار لنمط تاريخي من إعادة الهيكلة الاقتصادية التي تضحي بالطبقة الوسطى لصالح نموذج اقتصادي جديد تستفيد منه النخبة.

  • التصنيع العكسي في السبعينيات: في السبعينيات والثمانينيات، تم التضحية بالطبقة الوسطى من عمال المصانع ذوي الياقات الزرقاء على مذبح العولمة والتجارة الحرة. تم إغلاق المصانع ونقل الوظائف إلى الخارج بحجة الكفاءة والقدرة التنافسية العالمية. أدى ذلك إلى تدمير مجتمعات بأكملها، وتآكل النقابات، وبداية عقود من ركود الأجور للعمال غير الحاصلين على تعليم جامعي.28 انخفضت نسبة البالغين في الأسر ذات الدخل المتوسط من 61% في عام 1971 إلى 50% في عام 2021، كما انخفضت حصتهم من إجمالي الدخل القومي من 62% إلى 42% خلال نفس الفترة.31
  • التصنيع العكسي الرقمي في 2025: اليوم، يتم تكرار نفس النمط، ولكن الضحية هذه المرة هي الطبقة الوسطى المتعلمة من ذوي الياقات البيضاء في قطاع التكنولوجيا. يتم استبدال مهندسي البرمجيات، ومديري المشاريع، ومحللي البيانات بـ “الكفاءة” الموعودة للذكاء الاصطناعي. إن الحجة هي نفسها: إنها تضحية ضرورية من أجل التقدم والقدرة التنافسية.
  • النمط المتكرر: في كلتا الحالتين، يتم تفكيك مسار مستقر للوصول إلى الطبقة الوسطى (وظيفة مصنع جيدة الأجر في الماضي، وظيفة تكنولوجية جيدة الأجر اليوم) واستبداله بنموذج اقتصادي يزيد من تركيز الثروة في القمة. إنها عملية “تدمير ذاتي” اقتصادي، حيث يتم التضحية بالاستقرار الاجتماعي الواسع من أجل مكاسب مركزة في أيدي قلة.
المقياسالسبعة العظام (M7)مؤشر S&P 493 (بدون M7)المتوسط التاريخي لمؤشر S&P 500
مضاعف الربحية الآجل (P/E)29x19x~18x
الوزن في مؤشر S&P 500~34%66%N/A
المساهمة في أرباح S&P 500~15%85%N/A
أداء السهم (منذ بداية العام)+16%N/A+13%

القسم الثالث: الفرضية (ب) – الضرورة الجيوسياسية: السباق الحتمي

تقدم هذه الفرضية رؤية بديلة ومقنعة: إن الإنفاق الهائل على الذكاء الاصطناعي ليس مجرد مضاربة مالية، بل هو ضرورة استراتيجية تفرضها حقائق المنافسة العالمية. فمن هذا المنظور، فإن ما يبدو وكأنه “فقاعة” من الداخل، هو في الواقع “سباق تسلح” حتمي من الخارج. إن الولايات المتحدة لا تنفق هذه المبالغ الطائلة باختيارها، بل لأنها مجبرة على ذلك في مواجهة تحدٍ وجودي من الصين.

3.1 المحرك الصيني: سباق غير اختياري

إن المحرك الأساسي لهذا الإنفاق المحموم يقع على بعد آلاف الأميال في بكين. لقد أعلنت الصين صراحة عن طموحها في أن تصبح القوة المهيمنة على الذكاء الاصطناعي في العالم بحلول عام 2030، ودعمت هذا الطموح باستثمارات حكومية هائلة تقدر بنحو 150 مليار دولار.33 هذا الإعلان لم يكن مجرد بيان سياسي، بل كان بمثابة إعلان بدء “حرب تكنولوجية باردة” جديدة.

  • التهديد الوجودي: تنظر مؤسسة الأمن القومي الأمريكية إلى هذا التحدي باعتباره تهديداً وجودياً. فقد حذر تقرير لجنة الأمن القومي المعنية بالذكاء الاصطناعي (NSCAI) بعبارات قاطعة من أن “أمريكا ليست مستعدة للدفاع أو المنافسة في عصر الذكاء الاصطناعي” وأن الولايات المتحدة “يجب أن تفوز في منافسة الذكاء الاصطناعي التي تزيد من حدة المنافسة الاستراتيجية مع الصين”.34
  • التقدم الصيني السريع: لم تعد الصين مجرد مقلد تكنولوجي. فقد أصبحت “منافساً نظيراً في العديد من المجالات ورائدة في بعض التطبيقات”.34 تمتلك الصين 47% من أفضل باحثي الذكاء الاصطناعي في العالم، وتمثل أكثر من 70% من طلبات براءات الاختراع العالمية في هذا المجال.36 هذا التقدم السريع يعني أن أي تباطؤ في الاستثمار الأمريكي سيؤدي حتماً إلى تخلف الولايات المتحدة.
  • سباق لا يمكن إيقافه: في هذا السياق، فإن إنفاق 420 مليار دولار على البنية التحتية للذكاء الاصطناعي 16 ليس علامة على الوفرة، بل هو استجابة ضرورية للحفاظ على التكافؤ. إنها معركة حاسمة يمكن أن “تعيد تشكيل ديناميكيات القوة العالمية”.37 وبالتالي، فإن الشركات الأمريكية لا تستثمر لتحقيق أرباح فصلية، بل لضمان عدم تخلف الأمة بأكملها في التكنولوجيا الأكثر أهمية في القرن الحادي والعشرين.

3.2 من وادي السيليكون إلى البنتاغون: المجمع الصناعي العسكري الجديد

إن العلاقة بين شركات التكنولوجيا الكبرى والبنتاغون ليست جديدة، فقد نشأ وادي السيليكون نفسه من رحم استثمارات وزارة الدفاع خلال الحرب الباردة.38 لكن ما نشهده اليوم هو اندماج أعمق وأكثر تسارعاً، حيث أصبحت الابتكارات التجارية في مجال الذكاء الاصطناعي تشكل بشكل مباشر الجيل القادم من القدرات العسكرية.

  • الحرب المستقلة (Autonomous Warfare): إن الاستثمارات الضخمة في الذكاء الاصطناعي لا تهدف فقط إلى تحسين محركات البحث أو الشبكات الاجتماعية، بل تهدف أيضاً إلى تطوير أنظمة الأسلحة المستقلة. إن الذكاء الاصطناعي هو المكون الأساسي في كل شيء، من الطائرات المقاتلة من الجيل الخامس مثل F-35، التي تستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي كمساعد طيار، إلى أسراب الطائرات بدون طيار التي يمكنها اتخاذ قرارات تكتيكية في ساحة المعركة.38
  • عقود مباشرة وشراكات: أصبحت العقود العسكرية مربحة بشكل متزايد لشركات الذكاء الاصطناعي.41 وتظهر الشراكات المباشرة هذا الاندماج بوضوح:
    • ميتا و OpenAI: دخلت كلتا الشركتين في شراكات مع شركة الدفاع الناشئة “أندوريل” لدمج تقنيات الذكاء الاصطناعي الخاصة بهما في أنظمة دفاعية، مثل الأنظمة المضادة للطائرات بدون طيار، وتطوير خوذات الواقع المعزز للجنود في الميدان.38
    • جوجل: بعد فترة من التردد بسبب ضغوط الموظفين، عادت جوجل للتعاون مع وزارة الدفاع، متراجعة عن وعدها بعدم استخدام الذكاء الاصطناعي في تطوير الأسلحة.38
  • الابتكار التجاري كقوة عسكرية: من منظور البنتاغون، فإن النظام البيئي التجاري للذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة هو أعظم أصوله. فهو يوفر البحث والتطوير على نطاق لا يمكن لميزانية الدفاع وحدها أن تموله. إن كل دولار يتم إنفاقه من قبل مايكروسوفت أو جوجل على تطوير نماذج لغوية كبيرة أو بنية تحتية سحابية هو دولار يساهم بشكل غير مباشر في التفوق العسكري الأمريكي المستقبلي.

3.3 عقيدة “الأصول الاستراتيجية”: حماية أبطال الأمة

في ضوء هذا السباق الجيوسياسي، تغيرت نظرة الإدارة الأمريكية لعمالقة التكنولوجيا بشكل جذري. فبدلاً من النظر إليهم كمشكلة احتكارية محتملة تتطلب التنظيم، أصبح يُنظر إليهم بشكل متزايد على أنهم “أصول استراتيجية للأمن القومي” أو “أبطال وطنيون” يجب حمايتهم ودعمهم.

  • الأمن القومي فوق مكافحة الاحتكار: إن هيمنة شركات مثل جوجل، مايكروسوفت، وأمازون على السوق العالمية لم تعد تُرى على أنها خطر على المنافسة الداخلية، بل كحصن ضد الهيمنة الصينية. إن أي إجراء تنظيمي صارم، مثل تفكيك هذه الشركات، قد يُنظر إليه الآن على أنه يضر بالأمن القومي الأمريكي لأنه سيضعف قدرة الولايات المتحدة على المنافسة مع الشركات الصينية المدعومة من الدولة.42
  • شراكة بين القطاعين العام والخاص: تتعاون الحكومة الأمريكية بشكل وثيق مع هذه الشركات لتأمين البنية التحتية الحيوية للبلاد، ومواجهة الهجمات السيبرانية، ووضع معايير تكنولوجية عالمية.42 لقد أصبحت شركات مثل Amazon Web Services شريكاً أساسياً في حماية البيانات الحكومية الحساسة.42
  • التضحية الداخلية من أجل القوة الخارجية: تتبنى هذه العقيدة فكرة أن التكاليف الاجتماعية الداخلية، مثل تسريح الموظفين وزيادة عدم المساواة، هي ثمن مؤسف ولكنه ضروري للحفاظ على القوة الأمريكية على الساحة العالمية. إن الحفاظ على هيمنة “السبعة العظام” يعتبر أكثر أهمية من حماية الوظائف الفردية داخل هذه الشركات. إنها مقايضة قاسية، لكنها تعتبر ضرورية من منظور الأمن القومي.
الشركةالشريك الدفاعي / الوكالةالمشروع / القدرةالأهمية الاستراتيجية
ميتاأندوريل / البنتاغونبرمجيات الواقع المعزز / الممتد للجنودتعزيز الوعي الظرفي والتكتيكي في ساحة المعركة
OpenAIأندوريلدمج الذكاء الاصطناعي في أنظمة مضادة للطائرات بدون طيارتحسين قدرات الكشف عن التهديدات الجوية المستقلة
جوجل / ألفابتوزارة الدفاععقود متعددة (بعد التراجع عن سياسة عدم المشاركة)توفير الذكاء الاصطناعي والمواهب لمجموعة واسعة من التطبيقات الدفاعية
مايكروسوفتالبنتاغون / مجتمع الاستخباراتالحوسبة السحابية (Azure)، تطوير الذكاء الاصطناعيتوفير البنية التحتية الآمنة والقابلة للتطوير للعمليات العسكرية والاستخباراتية
أمازونوكالات الاستخبارات / البنتاغونخدمات أمازون ويب (AWS)حماية ونقل البيانات الحكومية الحيوية، وتوفير قدرات حوسبة هائلة

القسم الرابع: الكماشة الاستراتيجية: الانتحار على نار هادئة

إن تحليل الفرضيتين المتعارضتين لا يقود إلى استنتاج بسيط بأن إحداهما صحيحة والأخرى خاطئة. بل يكشف عن حقيقة أكثر قتامة: أن كلتيهما صحيحتان في آن واحد. وهذا يضع الولايات المتحدة في “كماشة استراتيجية” – وهو مأزق حيث كل خطوة ممكنة تؤدي إلى شكل من أشكال الضرر الجسيم. فالأمة ممزقة بين فكين، أحدهما داخلي والآخر خارجي، وكلاهما يضغط بقوة مدمرة. ومما يزيد من خطورة هذا الموقف أن الآلة بأكملها تعتمد على نقطة ضعف واحدة قاتلة.

4.1 الفك الداخلي: التفكك الاقتصادي والفيضان الثقافي

يمثل هذا الفك العواقب المباشرة لـ “اقتصاد الوهم” الموصوف في الفرضية (أ). إن الإنفاق الهائل والمغلق على الذكاء الاصطناعي، والذي يموله تسريح مئات الآلاف من المهنيين المتعلمين، لا يؤدي فقط إلى تآكل “الاقتصاد الحقيقي”، بل يغذي أيضاً الانقسام الاجتماعي والسياسي.

  • تدمير الاقتصاد الحقيقي: عندما يتم تدوير مئات المليارات من الدولارات بين سبع شركات فقط، فإن هذا يحرم بقية الاقتصاد من رأس المال الحيوي. فالشركات الصغيرة والمتوسطة، التي تشكل العمود الفقري للتوظيف والابتكار المحلي، تجد صعوبة في الحصول على الاستثمار والمواهب التي يتم امتصاصها جميعاً في دوامة الذكاء الاصطناعي.
  • تفاقم عدم المساواة: إن نموذج “الإنتاجية” القائم على استبدال العمالة بدلاً من تمكينها يؤدي حتماً إلى اتساع الفجوة بين مالكي رأس المال (مساهمي الشركات السبع) والعمال (بقية السكان). وكما تشير التحليلات، من المرجح أن تكون مكاسب الإنتاجية الناتجة عن الذكاء الاصطناعي منحازة نحو العمال ذوي الدخل المرتفع، مما يترك العمال ذوي المهارات الأقل خلف الركب، ويزيد من تحويل العوائد الاقتصادية من العمل إلى رأس المال.45 وهذا يسرّع من تآكل الطبقة الوسطى، وهو اتجاه مستمر منذ عقود.31
  • الانقسام الداخلي: إن الشعور بأن النظام الاقتصادي مصمم لإفادة نخبة صغيرة على حساب الأغلبية هو وقود للغضب السياسي والاستقطاب. إن تدمير مسارات مهنية مستقرة ومجزية للطبقة الوسطى المتعلمة يخلق جيلاً من المهنيين الساخطين والمحبطين، مما يضعف الثقة في المؤسسات ويزيد من التوترات الاجتماعية.46 إن الاستقرار الداخلي للأمة يتآكل لتمويل سباق خارجي.

4.2 الفك الخارجي: السباق الذي لا يمكن إيقافه

يمثل هذا الفك الحقيقة القاسية لـ “الضرورة الجيوسياسية” الموصوفة في الفرضية (ب). بغض النظر عن مدى الضرر الداخلي الذي يسببه الإنفاق على الذكاء الاصطناعي، فإن التوقف عنه ليس خياراً قابلاً للتطبيق من منظور الأمن القومي.

  • الخسارة الفورية: إن أي تخفيض كبير في الاستثمار أو أي إجراء تنظيمي صارم يبطئ من وتيرة الابتكار في وادي السيليكون سيُفسر في بكين على أنه فرصة لا تعوض. ففي سباق تسلح تكنولوجي، لا يوجد مكان ثانٍ. إن التوقف عن الركض يعني الخسارة الفورية.
  • التبعية الاستراتيجية: إذا تفوقت الصين في مجال الذكاء الاصطناعي، فإنها لن تكتسب ميزة عسكرية فحسب، بل ستسيطر أيضاً على البنية التحتية التكنولوجية العالمية للقرن الحادي والعشرين. وهذا من شأنه أن يمنحها نفوذاً هائلاً على التجارة العالمية، والتدفقات المالية، والمعلومات، مما يهدد بشكل مباشر المصالح الاقتصادية والأمنية للولايات المتحدة وحلفائها.36
  • لا يوجد مخرج سهل: إن الولايات المتحدة مجبرة على مواصلة المسار الذي يدمرها من الداخل، لأن البديل – السماح للصين بالهيمنة – يعتبر أكثر كارثية. إنها عالقة في لعبة يجب أن تلعبها، حتى لو كانت قواعد اللعبة تضمن إلحاق الضرر بنفسها.

4.3 نقطة الضعف القاتلة: الانتحار الاستراتيجي على جزيرة واحدة

إن ما يحول هذا المأزق الصعب إلى وضع خطير للغاية هو حقيقة أن هذه الآلة المالية والعسكرية الهائلة التي تبلغ قيمتها تريليونات الدولارات، والتي يتم بناؤها على حساب الاستقرار الداخلي الأمريكي، تعتمد بشكل شبه كامل على مصنع واحد يقع في واحدة من أكثر المناطق الجيوسياسية تقلباً على وجه الأرض: شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات (TSMC).

  • الاحتكار المطلق: تنتج TSMC أكثر من 90% من رقائق أشباه الموصلات الأكثر تقدماً في العالم (أقل من 7 نانومتر)50 هذه الرقائق ليست مجرد مكونات؛ إنها “العقل” الذي يشغل كل شيء، من أحدث نماذج الذكاء الاصطناعي التي تطورها جوجل ومايكروسوفت إلى أنظمة التوجيه في الصواريخ الأمريكية المتقدمة وأنظمة التحليل القائمة على الذكاء الاصطناعي في ساحة المعركة.52
  • فشل التنويع: على الرغم من الجهود المبذولة من خلال “قانون الرقائق والعلوم” واستثمار TSMC بقيمة 100 مليار دولار في مصانع جديدة في أريزونا، فإن الاعتماد على تايوان سيستمر في المستقبل المنظور. فتكلفة الإنتاج في الولايات المتحدة أعلى بنسبة تصل إلى 50%، والنظام البيئي المعقد للموردين والخبرات الفنية غير موجود، وستبقى أحدث عمليات البحث والتطوير والإنتاج في تايوان.55 تهدف الولايات المتحدة إلى إنتاج 20% فقط من الرقائق المتقدمة في العالم بحلول نهاية العقد، مما يترك 80% من الإمدادات عرضة للخطر.57
  • القنبلة الموقوتة الجيوسياسية: تقع هذه البنية التحتية الحيوية على بعد 110 أميال فقط من الصين، التي تعتبر تايوان مقاطعة منشقة وتتعهد بإعادتها إلى سيطرتها، بالقوة إذا لزم الأمر. إن أي اضطراب في مضيق تايوان – سواء كان حصاراً بحرياً أو غزواً شاملاً – من شأنه أن يوقف تدفق 90% من الرقائق المتقدمة في العالم على الفور.59 وهذا لن يؤدي فقط إلى انهيار “اقتصاد الذكاء الاصطناعي” الأمريكي، بل سيشل أيضاً قدرات الجيش الأمريكي، الذي يعتمد على هذه الرقائق نفسها.

إن هذا الاعتماد هو شكل من أشكال “الانتحار الاستراتيجي”. فالولايات المتحدة تدمر استقرارها الاجتماعي لتمويل سباق تسلح، وهذا السباق يعتمد على تكنولوجيا لا يمكنها تصنيعها، وهذه التكنولوجيا تأتي من جزيرة لا تستطيع ضمان الدفاع عنها دون المخاطرة بحرب عالمية ثالثة.

القسم الخامس: الخلاصة – السير في النفق المظلم

بعد تحليل الفرضيتين المتناقضتين، يتضح أن الوضع الاستراتيجي للولايات المتحدة ليس مجرد تحدٍ، بل هو مأزق عميق ومتعدد الأوجه. إن الأمة لا تواجه خياراً بين مسارين، بل هي محاصرة في مسار واحد لا مفر منه، يؤدي إلى نتائج ضارة بغض النظر عن النوايا. إنها تسير بالفعل في “نفق مظلم”، حيث الضوء في نهايته ليس مؤكداً، والمسار نفسه محفوف بالمخاطر الوجودية.

إن الاستنتاج النهائي لهذا التقرير هو أن الفرضيتين – “اقتصاد الوهم” و “الضرورة الجيوسياسية” – ليستا متنافستين، بل هما وجهان لعملة واحدة. إنهما يصفان نفس الظاهرة من منظورين مختلفين، داخلي وخارجي.

  • داخلياً، يعمل اقتصاد الذكاء الاصطناعي كـ “اقتصاد وهمي”. إنه يعيد تدوير رأس المال بين قلة من النخبة، ويضخم التقييمات بناءً على السردية بدلاً من القيمة الحقيقية، ويفكك بشكل منهجي الطبقة الوسطى المتعلمة، مما يكرر الأنماط المدمرة للتصنيع العكسي في القرن العشرين. إنه محرك لعدم المساواة والتفكك الاجتماعي.
  • خارجياً، هذا الاقتصاد الوهمي هو السلاح الذي اختارته الولايات المتحدة لخوض “سباق تسلح” حتمي ضد الصين. إنه ضرورة جيوسياسية لا يمكن تجنبها. إن الهيمنة على الذكاء الاصطناعي تعتبر حاسمة للحفاظ على القوة العسكرية والاقتصادية الأمريكية في مواجهة منافس استراتيجي مصمم على تغيير النظام العالمي.

إن المأساة تكمن في أن هاتين الحقيقتين مرتبطتان بشكل لا ينفصم. فالولايات المتحدة مجبرة على تغذية الآلة التي تلتهم مجتمعها من الداخل من أجل مواجهة تهديد خارجي لا يمكنها تجاهله. إنها تضحي بالتماسك الاجتماعي من أجل الأمن القومي، دون أن تدرك تماماً أن التماسك الاجتماعي هو أساس الأمن القومي على المدى الطويل. إن الاستراتيجية المصممة لضمان النصر في المستقبل تقوض الأسس اللازمة للوصول إلى هذا المستقبل.

وهذا كله يحدث بينما تقف هذه الاستراتيجية الكبرى بأكملها على ساق واحدة هشة: الاعتماد شبه الكامل على إنتاج أشباه الموصلات المتقدمة في تايوان. هذه ليست مجرد نقطة ضعف في سلسلة التوريد؛ إنها ثغرة استراتيجية قاتلة. إنها تجعل مستقبل الاقتصاد والجيش الأمريكي رهينة للأحداث في مضيق تايوان، وهي منطقة تقع خارج سيطرة واشنطن المباشرة.

لذلك، فإن الولايات المتحدة لا تسير فقط في نفق مظلم، بل إنها تفعل ذلك وهي تعلم أن النفق قد ينهار في أي لحظة بسبب زلزال جيوسياسي. لا توجد حلول سهلة لهذا المأزق. إن إعادة توطين صناعة أشباه الموصلات ستستغرق عقداً من الزمان وتكاليف باهظة، إذا كانت ممكنة على الإطلاق. وإن التراجع عن سباق الذكاء الاصطناعي يعني الاستسلام الاستراتيجي. وإن الاستمرار في المسار الحالي يعني قبول تآكل مستمر للطبقة الوسطى والاستقرار الاجتماعي.

إن التحدي الحقيقي الذي يواجه صناع السياسة في الولايات المتحدة ليس مجرد كيفية الفوز في سباق التكنولوجيا ضد الصين، بل كيفية القيام بذلك دون أن تفقد الأمة روحها في هذه العملية. إنه تحدٍ يتطلب بصيرة استراتيجية ومرونة اجتماعية على مستوى لم تشهده البلاد منذ الحرب الباردة، ولكن في ظل ظروف داخلية وخارجية أكثر تعقيداً وخطورة.