إذا كان لـ “الطوفان الثقافي” في يسار أمريكا أب روحي واحد، فهو بلا شك السيناتور بيرني ساندرز. هو ليس مجرد سياسي، بل هو ظاهرة ثقافية نجحت في تحويل أفكار كانت تعتبر “هامشية” و”متطرفة” إلى قلب النقاش السياسي الوطني. فهم ساندرز هو فهم لكيفية ولادة “معسكر العدالة” التقدمي بشكله الحالي.

1. اللمحة التاريخية والمهنية: “الماراثون” الطويل من الهامش إلى المركز

مسيرة ساندرز هي قصة فريدة من الصبر والمثابرة السياسية:

  • الناشط: بدأ حياته السياسية في الستينيات كناشط في حركة الحقوق المدنية، وشارك في “مسيرة واشنطن” الشهيرة مع مارتن لوثر كينغ. هذا يمنحه “شرعية نضالية” تاريخية.
  • السياسي المستقل: على عكس معظم السياسيين، قضى ساندرز معظم حياته المهنية كـ “مستقل”، وليس كديمقراطي. بدأ كرئيس بلدية اشتراكي لمدينة بورلينغتون، ثم أصبح النائب المستقل الوحيد في الكونغرس لعقود. هذه الهوية “المستقلة” هي جوهر علامته التجارية كـ”دخيل” على النظام.
  • الثورة السياسية: اللحظة التي حولته من سياسي مغمور إلى ظاهرة عالمية كانت حملته الرئاسية عام 2016. رغم خسارته، إلا أن حملته التي أطلق عليها اسم “الثورة السياسية” نجحت في إشعال حماس جيل كامل من الشباب، وأجبرت الحزب الديمقراطي على تبني الكثير من أفكاره.

2. القدرات الاستراتيجية: “قوة الأصالة والمبدأ”

قوة ساندرز الاستراتيجية لا تأتي من المناورات السياسية، بل من ثلاث سمات أساسية:

  1. الأصالة والثبات: أعظم أصوله هو أنه لم يغير أفكاره الأساسية منذ 40 عاماً. في عالم السياسة المتقلب، يمثل ساندرز “صخرة” من الثبات على المبدأ. هذا يمنحه مصداقية هائلة لدى جمهور سئم من السياسيين الذين يغيرون مواقفهم.
  2. تحديد العدو بوضوح: ساندرز بارع في تبسيط الصراع. بالنسبة له، المعركة ليست معقدة، بل هي صراع أخلاقي واضح بين “الطبقة المليارديرية والـ 1%” من جهة، و”بقية الشعب” من جهة أخرى. هذه السردية البسيطة والقوية هي النسخة اليسارية من سردية “الشعب ضد النخبة” التي يستخدمها اليمين الشعبوي.
  3. تعبئة الشباب: لديه قدرة فريدة على التواصل مع الشباب وتعبئتهم، فهم يرون فيه شخصية “أصيلة” تتحدث عن مشاكلهم الحقيقية (ديون الطلاب، تكاليف السكن، إلخ).

3. الخلفية العقدية: “الاشتراكية الديمقراطية”

عقيدة ساندرز هي “الاشتراكية الديمقراطية”، وهو يحرص دائماً على تمييزها عن الشيوعية السلطوية. نموذجه ليس الاتحاد السوفيتي، بل هو الدول الإسكندنافية (الدنمارك، السويد).

  • سرديته: “أنا لا أؤمن بأن الحكومة يجب أن تسيطر على كل شيء. أنا أؤمن بأن كل مواطن له الحق في أساسيات الحياة الكريمة”.
  • أجندته: تقوم على سياسات أصبحت الآن هي برنامج “معسكر العدالة” التقدمي: الرعاية الصحية للجميع (Medicare for All)، التعليم الجامعي المجاني، والصفقة الخضراء الجديدة لمواجهة تغير المناخ.

4. مفكر أم سياسي أم بوق؟ “الأب الروحي”

ساندرز هو سياسي محترف، لكن تأثيره يتجاوز السياسة. هو ليس مفكراً أكاديمياً، لكنه نجح في تبسيط الأفكار الاشتراكية وتقديمها للجمهور. لذلك، فإن أفضل وصف له هو “الأب الروحي” (The Godfather) للثورة التقدمية.

  • دوره: هو من منح الشرعية الأخلاقية والأيديولوجية لـ “معسكر العدالة”. هو الذي جعل كلمة “اشتراكية” مقبولة ومحبوبة لدى جيل كامل من الأمريكيين. إذا كانت شخصيات مثل AOC وتشنك أويغر هم “المحاربون” في الجبهة، فإن ساندرز هو “القائد الأعلى” الذي يستمدون منه شرعيتهم الفكرية.

الخلاصة: يمثل بيرني ساندرز لحظة تحول في تاريخ اليسار الأمريكي. لقد نجح في جر الحزب الديمقراطي والسياسة الأمريكية بأكملها نحو اليسار. ورغم أنه لم يفز بالرئاسة، إلا أن “ثورته السياسية” نجحت في تغيير قواعد اللعبة، والأفكار التي كان ينادي بها وحيداً في الماضي أصبحت الآن هي التيار الرئيسي في “معسكر العدالة” الذي سيشكل مستقبل أمريكا.