إن الاجتماع السري الذي عقده وزير الدفاع بيت هيغسيث في قاعدة كوانتيكو مع كبار جنرالات أمريكا لم يكن مجرد اجتماع روتيني لمناقشة استراتيجية جديدة. لقد كان، في جوهره، لحظة “تمرد” أيديولوجي من القيادة السياسية الشعبوية ضد آخر وأهم حصون “الدولة العميقة”: المؤسسة العسكرية. إن تغيير العقيدة العسكرية الأمريكية بهذا الشكل الجذري – من التركيز على الهيمنة العالمية إلى التركيز على “التهديدات الداخلية” – ليس مجرد تحول في السياسة، بل هو العَرَض الأكثر خطورة حتى الآن لـ “الطوفان الثقافي” الذي يجتاح أمريكا. إنه يمثل اللحظة التي تبدأ فيها الإمبراطورية، المهووسة بحربها الأهلية الداخلية، في تفكيك أدوات هيمنتها الخارجية، مكررة بذلك نمطاً تاريخياً مأساوياً لطالما حذر منه المفكرون.

العقيدة الجديدة: من “شرطي العالم” إلى “شرطي الداخل”

تُمثل الاستراتيجية الجديدة التي يقودها هيغسيث انقلاباً كاملاً على العقيدة التي سادت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فبدلاً من نشر القوة الأمريكية لضمان “النظام العالمي القائم على القواعد”، تسعى العقيدة الجديدة إلى سحب هذه القوة إلى الداخل. الهدف المعلن هو تجنب الحروب الخارجية المكلفة والتركيز على “أمريكا أولاً”. لكن الهدف الحقيقي أعمق من ذلك: إنه إعادة تعريف “العدو”. لم يعد العدو الرئيسي هو الصين أو روسيا، بل أصبح “العدو في الداخل”: المهاجرون، تجار المخدرات، المحتجون، والمدن الديمقراطية “الفاشلة”.

هذا التحول هو التجسيد المادي لـ “الطوفان الثقافي” الشعبوي. فالحركة التي بدأت كتمرد ثقافي وسياسي ضد “النخبة العالمية”، وصلت الآن إلى السلطة، وهي تسعى لاستخدام أقوى أداة في يد الدولة، الجيش، ليس لمواجهة أعداء أمريكا، بل لمواجهة أعدائها السياسيين داخل أمريكا.

“الطوفان” يواجه “الدولة العميقة”: صراع على روح الجيش

ما شهده اجتماع كوانتيكو لم يكن نقاشاً استراتيجياً، بل كان صراعاً على روح الجيش.

  • الجناح الشعبوي (هيغسيث وترامب): يرى المؤسسة العسكرية التقليدية كجزء من “الدولة العميقة” الليبرالية، “اليقظة” (Woke)، والمهتمة بقضايا المناخ أكثر من القتال. لذلك، يسعى إلى “تطهير” قيادتها، وتقليص نفوذها، وإعادة توجيه مهمتها لتخدم أجندته السياسية الداخلية.
  • الجناح المؤسسي (الجنرالات): يرى في هذه الاستراتيجية الجديدة “جنوناً” و”خيانة” للدور التاريخي لأمريكا. هم يحذرون من أن الانسحاب من العالم سيخلق فراغاً تملؤه الصين، وأن استخدام الجيش في الداخل سيدمر ثقة الشعب في المؤسسة العسكرية ويحولها إلى أداة قمع سياسي.

هذه ليست مجرد حرب أهلية داخل “حصن النظام”، بل هي اللحظة التي يبدأ فيها “الطوفان” بمحاولة الاستيلاء على أقوى أسلحة الحصن.

صدى التاريخ: “الانتحار الحضاري” الداخلي

هذا التحول المأساوي ليس فريداً من نوعه. لقد حذر كبار المفكرين من أن الحضارات لا تموت غالباً لأنها “تُقتل”، بل لأنها “تنتحر”.

  • المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي، في دراسته الموسوعية للحضارات، حذر من ظاهرة “الانتحار الحضاري”. تحدث هذه الظاهرة عندما تفقد الحضارة “طاقتها الإبداعية” وتلجأ إلى الحلول العسكرية القديمة لمواجهة تحديات جديدة. بالنسبة لتوينبي، الانهيار هو نتيجة “إفلاس إبداعي وروحي”، حيث تصبح الحضارة غير قادرة على ابتكار حلول جديدة، فتلتهم نفسها في حروب لا طائل منها. وما نشهده اليوم هو شكل جديد من هذا الانتحار: “الإفراط في التمدد الداخلي”، حيث توجه الإمبراطورية كل مواردها وطاقتها ليس لمواجهة خصومها في الخارج، بل لسحق خصومها في الداخل.
  • ابن خلدون علمنا أن الدول تسقط عندما تفقد “عصبيتها” (التضامن الداخلي) وتنشغل بالترف والصراعات الداخلية. إن “الطوفان الثقافي” هو التعبير الحديث عن فقدان هذه “العصبية” الوطنية الجامعة، واستبدالها بـ “عصبيات” قبلية متصارعة.
  • آرثر شليسنغر حذر من “الرئاسة الإمبراطورية” التي تتجاوز حدودها الدستورية. واليوم، نرى هذه الرئاسة الإمبراطورية لا تكتفي بشن الحروب في الخارج، بل تهدد بشنها في الداخل.

الخلاصة: إمبراطورية ترتكب الانتحار

إن العقيدة العسكرية الجديدة ليست استراتيجية، بل هي عرض لمرض حضاري عميق. إنها علامة على إمبراطورية فقدت ثقتها بنفسها، وأصبحت تخشى من مواطنيها أكثر مما تخشى من أعدائها. إنها شهادة على أن “الطوفان الثقافي” قد نجح في اختطاف “دماغ” الدولة، وجعلها تعيد توجيه قوتها الهائلة لتدمير نفسها.

عندما تبدأ قوة عظمى في تعريف “المهاجر” و”المحتج” كتهديد وجودي يستدعي تدخل الجيش، بينما تتجاهل صعود قوى عظمى منافسة، فهي لا تعيد تعريف استراتيجيتها، بل تكتب شهادة وفاتها. إنها إمبراطورية ترتكب انتحاراً بطيئاً على المسرح العالمي.