تشهد مؤسسة “هيريتيج” (Heritage Foundation)، التي تُعتبر تاريخياً المركز الفكري الأبرز للحركة المحافظة الأمريكية، خلافاً داخلياً غير مسبوق. هذا التوتر، الذي بدأ بدفاع رئيس المؤسسة كيفن روبرتس عن الإعلامي تاكر كارلسون، كشف عن انقسامات عميقة لم تعد تقتصر على المشهد السياسي العام، بل وصلت إلى داخل هذه المؤسسة الراسخة.
بدأ الخلاف بعد مقابلة كارلسون المثيرة للجدل مع نيك فوينتيس، وهي شخصية معروفة بآراء متطرفة ومعادية للسامية. دفاع روبرتس عن كارلسون، الذي تم تقديمه كدفاع عن “حرية الحوار” ورفض “ثقافة الإلغاء”، أدى إلى معارضة داخلية علنية. في خطوة نادرة تكشف عن تراجع الانضباط المؤسسي، قدم موظفون بارزون، بمن فيهم أعضاء فريق مكافحة معاداة السامية، استقالاتهم، احتجاجاً على ما اعتبروه تساهلاً غير مقبول مع خطاب متطرف.
ظاهرة “النمط الفركتالي” الكسوري
لكن النظر إلى هذه الحادثة كخلاف معزول هو قراءة سطحية. ما نرصده في الواقع هو “نمط فركتالي” (Fractal Pattern)؛ فالانقسام الحضاري العميق (الخلاف بين نهج المؤسسة والنهج الشعبوي) يعيد إنتاج نفسه على مستويات أصغر وأصغر، محافظاً على نفس بنية الخلاف:
- المستوى الكلي (الماكرو): الخلاف العام بين “معسكر الولاء” (النخب) و”معسكر العدالة” (التيار الشعبوي).
- المستوى المتوسط (الحزب الجمهوري): “انقسام فكري” داخل الحزب بين “الجيل القديم” (مثل ميتش ماكونيل ومايك بنس) و”حركة ماغا” (مثل ستيف بانون ومارجوري تايلور غرين).
- المستوى المصغر (المؤسسة): ما نراه اليوم في “هيريتيج”، حيث يواجه “الرئيس الشعبوي” (روبرتس) “الباحثين المؤسسيين” (المستقيلون).
من “المناورة السياسية” إلى “المواجهة الفكرية”
هذا الخلاف الفكري داخل “هيريتيج” هو تصعيد كبير يأتي مباشرة بعد “المناورة السياسية” التي رصدناها مؤخراً من نائب الرئيس جاي دي فانس. كلاهما يهدف إلى تحقيق نفس الغاية: تفكيك عقيدة التحالف القديمة (التي تقدس دعم إسرائيل) واستبدالها بعقيدة “أمريكا أولاً” الصارمة. “حادثة فانس” كانت “بالون اختبار” سياسي، أما “أزمة هيريتيج” فهي “مواجهة أيديولوجية” مفتوحة.
ارتباك “التيار التقليدي”
رد فعل “التيار التقليدي” كان متوقعاً ويكشف عن حجم “المأزق” الذي يواجهونه. لقد اختاروا “الصمت التكتيكي” بعد مناورة فانس، لكنهم اضطروا للرد بعد أن وصل الخلاف إلى “بيتهم” الفكري.
لقد شن “الائتلاف اليهودي الجمهوري” هجوماً واصفاً موقف روبرتس بـ “المثير للاشمئزاز”، وخرج قادة مثل تيد كروز ومايك بومبيو ليعبروا عن رفضهم لأي تساهل مع التطرف. لكنهم ينتقدون الآن رئيس أهم مؤسسة فكرية في معسكرهم، مما يظهر للعالم حجم الانقسام.الخلاصة: ما تكشفه أزمة “هيريتيج” هو أن تيار التغيير لم يعد على الأطراف، بل أصبح داخل مراكز النفوذ. الخلاف لم يعد حول كيفية مواجهة الديمقراطيين، بل حول “من يملك الحق في تعريف اليمين الأمريكي”. إنه “خلاف على الهوية” يتكرر كنمط فركتالي، ويضع الحركة المحافظة أمام تحدي انقسام داخلي عميق.