في تاريخنا، عندما سقطت ممالك الأندلس الزاهرة، صدحت حناجر الشعراء بمرثيات خالدة تبكي الأطلال وتسأل عن المجد الذي كان. أشهرها قصيدة أبي البقاء الرندي التي تبدأ بـ “لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ”. اليوم، في ضباب لندن، تُكتب مرثية جديدة، ليست شعراً، بل هي “أدب دبلوماسي” هادئ وحزين، يُقرأ بين سطور التحليلات الرصينة في الصحف الكبرى. إنها مرثية الإمبراطورية البريطانية العجوز، وقد جاءت زيارة الرئيس ترامب الأخيرة لا لتسبب السقوط، بل لتقيم مأتماً رسمياً له، وتجبر الأسد الهرم على رؤية وجهه الشاحب في المرآة.
لم تكن زيارة ترامب لقاءً بين حليفين، بل كانت أشبه بوليمة فخمة أقامها ملك متعب ومُفلس، ليُكرم فيها ضيفاً قوياً وفوضوياً يمثل النظام العالمي الجديد. كانت الأبهة الملكية، والعربات التي تجرها الخيول في وندسور، غطاءً شفافاً يخفي وراءه الحقيقة المُرة : استسلام كامل للتاج البريطاني، وسقوط مدوٍّ أمام الدب الأمريكي، وتشبث يائس به لإنقاذه من الهلاك.
صفقة الـ 150 مليار جنيه لم تكن عربون صداقة، بل كانت أشبه بـ “جزية” العصر الحديث؛ الثمن الذي يدفعه التابع للمتبوع مقابل الحماية والاعتراف. كان العناق بين الزعيمين ليس عناق iguales (الندّين)، بل هو عناق الغريق الذي يتشبث بقطعة خشب طافية، حتى لو كانت خشنة ومؤذية. لقد كانت تلك اللحظة هي الإعلان الرسمي عن نهاية فصل وبداية آخر؛ فصل لا تكون فيه بريطانيا شريكاً، بل تابعاً.
مقاطع الرثاء الثلاثة في أدب لندن الدبلوماسي
إذا استمعنا جيداً لأصوات النخبة البريطانية المفكرة، يمكننا سماع أصداء مرثية الرندي في ثلاثة مقاطع حزينة تصف الوضع المؤلم الذي وصلت إليه الإمبراطورية:
المقطع الأول: رثاء السيادة المفقودة “هي الأمور كما شاهدتها دُولٌ… من سرّه زمنٌ ساءته أزمانُ”.
لقد فقدت بريطانيا “الوكالة” (Agency)، وهو المصطلح الذي يستخدمه معلقون كبار أمثال سايمون جنكينز في صحيفة “الغارديان”، لوصف قدرتها على الفعل المستقل. لقد تحولت، كما تقول هذه الكتابات، من لاعب يرسم خريطة العالم، إلى مجرد رقعة شطرنج على الخريطة. السيادة التي قيل إنها استُعيدت بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وُجدت لتُسلَّم في اليوم التالي على طبق من فضة لواشنطن. إنه الألم الناتج عن إدراك أنك لم تعد قبطان سفينتك، بل مجرد راكب قلق يجهل وجهة الرحلة.
المقطع الثاني: رثاء المجد الزائف “أين الملوك و تيجانها؟”
الألم الأكبر ليس في الضعف، بل في الاضطرار إلى التظاهر بالقوة. إنها حالة من “الكآبة ما بعد الإمبراطورية”، وهو التعبير البليغ الذي صاغه المفكر فينتان أوتول لوصف النفسية الإنجليزية الحالية. فكما يشرح، لا تزال بريطانيا تعيش على وهم “الاستثنائية البريطانية” و”العلاقة الخاصة”. لكن كل زيارة أمريكية تصفعها بحقيقة أن أمريكا لا تعترف إلا بالقوة الحاضرة، لا بالمجد الغابر. الأبهة الملكية واستعراضات الحرس ليست إلا مسرحية باهظة التكاليف لإخفاء شعور عميق بالدونية والهوان. إنه رثاء لإمبراطورية تجيد لعب دور الإمبراطورية، لكنها نسيت كيف تكون إمبراطورية بالفعل.
المقطع الثالث: رثاء الأرض المُستأجرة “فاسأل بلنسيةَ ما شأنُ مرسيةَ… وأين شاطبةٌ أمْ أين جيَّانُ؟”
هذا هو الرثاء الاقتصادي، وهو واقع ترصده صحيفة “فاينانشال تايمز” باستمرار في تحليلاتها. إنه رثاء بريطانيا التي كانت “ورشة العالم” ومصدر الثورة الصناعية، لتتحول اليوم إلى “منطقة خدمات فاخرة” للإمبراطورية الجديدة. إنها تؤجر أرضها لتصبح مقراً لمراكز بيانات الشركات الأمريكية، وتؤجر قوانينها لتصبح ملاذاً لثروات العالم، وتؤجر عقولها لخدمة النظام المالي العالمي. لم تعد تملك اقتصادها، بل أصبحت مجرد وكيل عقاري يدير أملاك الغير على أرضه. إنه التحول من المالك إلى المستأجر، وهو أقسى صور الانحدار.
خاتمة: صدى الأندلس تماماً كما أدت الصراعات الداخلية بين ملوك الطوائف إلى إضعاف الأندلس وفتحها أمام القوى الخارجية، فإن “الطوفان الثقافي” والانقسامات الداخلية في بريطانيا أدت إلى تآكل “عصبيتها” وجعلتها غير قادرة على الصمود بمفردها.
إن الاستسلام للدب الأمريكي لم يكن قراراً غبياً، بل كان ذروة الحكمة المأساوية. حكمة من يدرك أنه لم يعد يملك القوة للمقاومة، فيختار التبعية على الفناء. وهذه هي الحقيقة المؤلمة التي تختبئ وراء كل التحليلات الدبلوماسية الهادئة: لقد اختارت لندن أن تكون تابعة حية، على أن تكون مستقلة ميتة. وهذا هو الرثاء الأخير والأكثر صدقاً في وداع آخر الإمبراطوريات.