ما شهده العالم في جامعة مسيسيبي لم يكن مجرد جلسة حوارية عادية، بل كان على الأرجح “مسرحية سياسية مُهندسة” بعناية، أُسدلت فيها الستارة على عقيدة الحزب الجمهوري القديمة، وأُعلنت على الملأ “عقيدة أمريكا أولاً” الجديدة.
بدأ المشهد بسؤال من طالب “مسيحي” بدا وكأنه يمثل “الغضب الشعبي” الصاعد داخل اليمين. طرح الشاب تساؤلات جريئة كانت تُعتبر من المحرمات: انتقد “التطهير العرقي” في غزة، وتساءل عن سبب أولوية إسرائيل، وطعن في شرعية “اللوبي”. كان هذا هو “بالون الاختبار” المثالي، الذي هيأ المسرح لـ “الحدث الرئيسي”.
جاء “الحدث الرئيسي” في رد نائب الرئيس، جاي دي فانس. لم يكن رده مرتبكاً أو دفاعياً، بل كان واضحاً، متماسكاً، وغير متردد. لقد كان إعلاناً لاستراتيجية جديدة، “عقيدة انفصال” عن الالتزامات القديمة.
ببراعة، قام فانس بتفكيك “العقيدة الصهيونية المسيحية” القديمة:
- فصل الدين عن السياسة: اعترف بـ “الخلافات العقائدية” بين المسيحية واليهودية، مفككاً بذلك الحجة الدينية للتحالف.
- أكد الهيمنة الأمريكية: تفاخر بأن ترامب هو من “ضغط على إسرائيل” لفرض وقف إطلاق النار، مدمراً سردية أن إسرائيل هي من تتحكم بالسياسة الأمريكية.
- رسم الخط الجديد: ختمها بالمبدأ الأوحد لـ”أمريكا أولاً”: “أي دولة لا ينبغي أن تتقدّم على مصالح المواطنين الأمريكيين”.
صفعة على وجه “الحرس القديم”
هذا الإعلان الواضح كان بمثابة صفعة مدوية لـ “معسكر الولاء” المؤسسي (اللوبي الصهيوني والحرس القديم للحزب الجمهوري). لقد “أحشرتهم في زاوية” لا يمكن الفوز فيها:
- إذا هاجموا نائب الرئيس، أثبتوا صحة اتهامات “التقارب الكبير” بأن ولاءهم لإسرائيل أعلى من ولائهم لإدارة حزبهم.
- وإذا صمتوا، فهم يقبلون رسمياً بـ “خفض رتبة” إسرائيل من “حليف مقدس” إلى مجرد “شريك مصلحة”.
رصد ردود الأفعال: “حرب الوكالة”
وكما توقعنا في مشروع الرصد هذا، فإن رد الفعل لم يأتِ بشكل رسمي ومباشر. لقد التزمت “إيباك” (AIPAC) والمنظمات الكبرى بـ “الصمت التكتيكي”. لكن الرصد العميق خلال الأيام الماضية كشف عن بدء “حرب بالوكالة” في الإعلام الموالي لإسرائيل:
- مقالات تحليلية في منابر مثل “تايمز أوف إسرائيل” و”جويش جورنال” لم تهاجم سياسة “أمريكا أولاً”، بل لجأت إلى تكتيك “الاغتيال الأخلاقي”.
- اتهموا فانس بـ “الفشل الأخلاقي” في عدم إدانة “معاداة السامية” المزعومة في سؤال الطالب، وبأنه يلمح إلى نظريات المؤامرة حول “سيطرة” اليهود على الرؤساء السابقين.
- هذا يثبت أنهم خسروا المعركة المفتوحة على “السياسة”، ولجأوا إلى “حرب العصابات” الفكرية حول “النوايا”.
الخلاصة: تأكيد المسار
إن “حادثة فانس”، التي سبقتها مواجهة مباشرة مع نتنياهو في إسرائيل حول “استفزازات” الكنيست، تؤكد المسار الذي كنا نراقبه عن كثب. “الطوفان الثقافي” الشعبوي لم يعد مجرد حركة احتجاجية على الهامش (كما تمثلها مارجوري غرين). لقد انتقل الآن من “الشارع” إلى “قلب السلطة التنفيذية”.
ما رصدناه هو إعادة تموضع استراتيجي كامل لليمين الأمريكي. لم يعد السؤال “هل ستتغير السياسة؟”، بل “كيف ستتعامل المؤسسة القديمة مع حقيقة أنها فقدت السيطرة على السردية؟”.