في الأفق السياسي الأمريكي، تتشكل موجة عاتية، لا تشبه في عنفوانها وطموحها أي شيء شهدته الجمهورية من قبل. إنها ليست مجرد عاصفة سياسية عابرة، بل هي هندسة دقيقة لطوفان شامل يُعرف باسم “مشروع 2025”. هذا المشروع، الذي تقوده مؤسسة “هيريتيج” المحافظة، يتجاوز كونه مجرد مجموعة من التوصيات السياسية؛ إنه مخطط استراتيجي متكامل وجاهز للتنفيذ، يهدف إلى تفكيك وإعادة بناء السلطة التنفيذية الأمريكية بشكل جذري. إنه يسعى إلى إحداث تغيير ثقافي كاسح، لا عن طريق الإقناع والتطور المجتمعي، بل عبر الاستيلاء على أدوات الدولة وتسخيرها لفرض رؤية أيديولوجية صارمة، مما يجسد تماماً فكرة الطوفان الثقافي الذي يهدف إلى فرض توازن جديد بالقوة، مُحدثاً بذلك صراعاً عميقاً في قلب الهوية الأمريكية.

هذه المقالة تستعرض الأبعاد المتعددة لهذا المشروع الثوري، محللةً أسسه الفكرية، وآلياته العملية، وتداعياته المحتملة على الديمقراطية الأمريكية، ودوره كأداة لحسم “الحروب الثقافية”، وتأثيره على مكانة أمريكا في العالم، وتضعه في سياق الموجة العالمية للتراجع الديمقراطي.

الجذور الفكرية: بناء القنوات للطوفان

لكي نفهم حجم الموجة القادمة، يجب أن ننظر إلى عقود من الحفر والتخطيط الفكري الذي سبقها. مشروع 2025 ليس وليد اللحظة، بل هو تتويج لمسار فكري طويل بدأ مع “تفويض للقيادة” (Mandate for Leadership) الذي قُدم لإدارة ريغان عام 1981. كان ذلك التفويض بمثابة “إنجيل” سياسات المحافظين، لكنه عمل ضمن الهيكل القائم للدولة. أما مشروع 2025، فيتجاوز الإصلاح إلى الثورة.

الدافع وراء هذا التصعيد هو شعور عميق بالأزمة لدى مهندسيه، الذين يرون أن “المسيرة الطويلة للماركسية الثقافية عبر مؤسساتنا قد تحققت”، وأن الحكومة الفيدرالية قد تحولت إلى سلاح موجه ضد القيم المحافظة. من هذا المنطلق، لا يهدف المشروع إلى تقليص حجم الحكومة كما كان الشعار المحافظ التقليدي، بل إلى السيطرة الكاملة عليها. إنه تحول من فكرة “الدولة الأصغر” إلى فكرة “الدولة المسيطر عليها”.

الركيزة القانونية التي ستحمل هذا الطوفان هي تفسير جذري للدستور يُعرف بـ “نظرية السلطة التنفيذية الموحدة” (Unitary Executive Theory). تفترض هذه النظرية أن الدستور يمنح الرئيس سيطرة مطلقة وكاملة على كل جزء من أجزاء السلطة التنفيذية. هذا المبدأ يلغي فعلياً استقلالية الوكالات الفيدرالية التي صُممت لتعمل بحيادية ومهنية، مثل وزارة العدل (DOJ) ومكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، ويحولها إلى مجرد أدوات في يد الرئيس لتنفيذ إرادته السياسية. إنها الفلسفة التي تمنح الرئيس السلطة النظرية لتحويل كل بيروقراطية الدولة إلى امتداد مباشر لمكتبه.

“Schedule F”: أداة كسر السدود المؤسسية

إذا كانت نظرية السلطة التنفيذية الموحدة هي المحرك الفلسفي، فإن خطة “Schedule F” هي الأداة العملية، هي الديناميت المصمم لتفجير السدود التي تحمي الخدمة المدنية الاحترافية. هذه الخطة، التي تمثل هجوماً مباشراً على نظام الجدارة الذي تأسس منذ أكثر من قرن، تقترح إنشاء فئة جديدة من الموظفين الفيدراليين.

بموجب أمر تنفيذي، سيتم إعادة تصنيف عشرات الآلاف من موظفي الخدمة المدنية المحميين – العلماء، الخبراء، المحللون، والمحامون الذين يشغلون مناصب “مؤثرة على السياسة” – إلى فئة “Schedule F”. هذا التصنيف يجردهم من حمايتهم الوظيفية، ويسمح بفصلهم “وفقاً لإرادة السلطة التنفيذية” دون سبب أو استئناف. عملياً، هذا يعني تطهيراً شاملاً للبيروقراطية من أي صوت مستقل أو معارض، واستبدالهم بجيش من الموالين الذين تم فحصهم أيديولوجياً، والذين تم إعدادهم مسبقاً عبر قواعد بيانات وأكاديميات تدريبية خاصة بالمشروع.

إن خطة “Schedule F” هي الشرط الأساسي لنجاح المشروع بأكمله. فبدونها، ستواجه الأجندة الثقافية والسياسية الجذرية مقاومة مؤسسية هائلة من بيروقراطية محترفة ملتزمة بالقانون. لكن مع “Schedule F”، يتم كسر هذه المقاومة، مما يسمح للطوفان الأيديولوجي بالتدفق دون عوائق عبر شرايين الحكومة، محولاً إياها من هيئة خدمية إلى أداة قمعية.

تآكل الديمقراطية: عندما تنهار الأسس

مع تدفق هذا الطوفان عبر المؤسسات، تبدأ أسس الجمهورية الديمقراطية نفسها في التآكل. يمثل مشروع 2025 اختبار إجهاد غير مسبوق للنظام الدستوري الأمريكي، وتأثيره يمتد إلى كل ركيزة من ركائز الديمقراطية:

  1. إخضاع العدالة: الهدف الأكثر خطورة هو إنهاء استقلالية وزارة العدل. فبموجب سيطرة الرئيس الكاملة، تتحول الوزارة من جهة تطبيق محايدة للقانون إلى سلاح سياسي يستخدم لملاحقة الخصوم وترهيب النقاد، وهي السمة المميزة للأنظمة الاستبدادية.
  2. تحييد الضوابط والتوازنات: يهدف المشروع إلى جعل الرقابة التشريعية من الكونغرس بلا معنى. فالوكالات التي يديرها موالون للرئيس لن تقدم شهادات صادقة أو تمتثل لأوامر الاستدعاء. كما أن الاعتماد على الأوامر التنفيذية وتفسيرات جديدة لقوانين قديمة (مثل قانون كومستوك) هو استراتيجية لتجاوز الكونغرس بالكامل، مما يعزز ما يُعرف بـ “الرئاسة الإمبراطورية”.
  3. تسييس الانتخابات: يمتد الخطر إلى العملية الانتخابية ذاتها. يقترح المشروع استخدام سلطة الحكومة الفيدرالية للتدخل في إدارة الانتخابات، وتقويض قوانين حقوق التصويت، ودعم الجهود الحزبية للطعن في النتائج، مما يهدد نزاهة الديمقراطية في جوهرها.

هذه العملية تخلق حلقة مفرغة ومدمرة: السيطرة على البيروقراطية تسهل إخضاع القضاء، وإخضاع القضاء يضعف الرقابة التشريعية، وهذا بدوره يسمح بالتلاعب بالانتخابات لترسيخ السلطة. إنه مسار يحول الجمهورية تدريجياً إلى حكم الرجل الواحد.

فرض نظام ثقافي جديد: ذروة الطوفان

هنا نصل إلى قلب المشروع وغايته النهائية. مشروع 2025 ليس مجرد استيلاء على السلطة من أجل السلطة، بل هو وسيلة لحسم “الحروب الثقافية” بشكل نهائي عبر فرض رؤية قومية مسيحية. إنه اللحظة التي يصل فيها الطوفان الثقافي إلى ذروته، لا ليحقق توازناً جديداً، بل ليفرض رؤية أحادية ويمحو ما عداها، مما يولد الصراع الذي لا مفر منه في مجتمع تعددي.

  • الأجندة القومية المسيحية: تدعو الوثيقة صراحة إلى الحكم بناءً على “تعريف للزواج والأسرة قائم على أساس الكتاب المقدس”، مما يتحدى مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة. وتصل المقترحات إلى حد استخدام وزارة العدل لتجريم الإجهاض على المستوى الوطني عبر تفعيل قانون “كومستوك” الذي يعود للقرن التاسع عشر، وتحويل وزارة الصحة إلى “وزارة للحياة”.
  • محو هويات بأكملها: يشن المشروع هجوماً شاملاً على حقوق مجتمع الميم (LGBTQ+)، داعياً إلى محو مصطلحات مثل “الهوية الجندرية” و”التوجه الجنسي” من جميع القوانين واللوائح الفيدرالية. كما يسعى إلى إلغاء جميع برامج التنوع والإنصاف والشمول (DEI) باعتبارها “دعاية عنصرية”.
  • السيطرة على التعليم: يمثل التعليم ساحة معركة رئيسية. تدعو الخطة إلى التفكيك الكامل لوزارة التعليم الفيدرالية، بهدف إنهاء ما تسميه “الدعاية المستيقظة” في المدارس، وفتح الباب أمام مناهج تعكس القيم الدينية والمحافظة.

هذا التحول ينقل الحرب الثقافية من كونها صراعاً على الأفكار في الساحة العامة إلى فرض أيديولوجية رسمية للدولة من أعلى إلى أسفل، وهو تكتيك يميز الأنظمة غير الليبرالية.

تداعيات عالمية: انحسار المد الأمريكي

إن الطوفان الذي يهدف إلى إغراق الداخل الأمريكي له تأثير معاكس على الساحة العالمية: فهو يؤدي إلى انحسار هائل للمد الأمريكي. السياسة الخارجية التي يقترحها المشروع هي امتداد مباشر لأجندته القومية، وتتميز بالانعزالية والأحادية.

  • التخلي عن التحالفات: يسعى المشروع إلى إضعاف الالتزام الأمريكي بالتحالفات التقليدية مثل الناتو، والنظر إليها من منظور تعاملي بحت، مما يترك فراغاً استراتيجياً يتوق خصوم مثل روسيا والصين إلى ملئه.
  • إنكار الأزمات العالمية: يدعو المشروع إلى انسحاب كامل من الجهود الدولية لمكافحة تغير المناخ، وتفكيك كل السياسات البيئية، والترويج بقوة للوقود الأحفوري. كما يدعو للانسحاب من منظمة الصحة العالمية، مما يعرض العالم لأوبئة مستقبلية.
  • سياسة خارجية أيديولوجية: ستصبح السياسة الخارجية الأمريكية أقل قابلية للتنبؤ، حيث ستخضع لنفس اختبارات الولاء الأيديولوجي المطبقة داخلياً. قد تتصرف أمريكا ضد مصالحها الأمنية والاقتصادية طويلة الأجل فقط لإرضاء أجندة ثقافية محلية.

دليل اللعبة السلطوي بنسخة أمريكية

مشروع 2025 ليس ظاهرة أمريكية معزولة، بل هو تكييف أمريكي لـ “دليل لعبة” سلطوي تم استخدامه بنجاح في دول شهدت تراجعاً ديمقراطياً، مثل المجر تحت حكم فيكتور أوربان وبولندا تحت حكم حزب القانون والعدالة.

تكتيكات المشروع – مثل تسييس الخدمة المدنية، والاستيلاء على القضاء، وشن حروب ثقافية باسم القومية المسيحية، وتقييد الحقوق الإنجابية – هي نسخة طبق الأصل لما حدث في هذه الدول. إنه يتبع نموذج ما يسمى بـ “الشرعوية الاستبدادية” (Authoritarian Legalism): استخدام أدوات القانون والدستور لتفريغ الديمقراطية من مضمونها بشكل منهجي. فالتغييرات لا تتم عبر انقلاب عسكري، بل عبر أوامر تنفيذية، وقوانين جديدة، وإعادة تفسير للدستور، مما يمنح عملية تفكيك الديمقراطية قشرة من الشرعية الزائفة.

خاتمة: على شفا الطوفان

يمثل مشروع 2025 لحظة مفصلية في التاريخ الأمريكي. إنه ليس مجرد تغيير في السياسات، بل هو مخطط لإعادة هندسة هوية الدولة والمجتمع. إنه يطرح أسئلة جوهرية: هل الحكومة أداة محايدة لخدمة الصالح العام، أم سلاح لفرض إرادة أيديولوجية؟ وهل يجب أن تعكس أمريكا تنوعها أم تفرض رؤية ثقافية واحدة؟

إن هذا المشروع هو التجسيد العملي لكيفية تحويل الصراع الثقافي إلى طوفان سياسي منظم، يهدف إلى إحداث قطيعة تامة مع التوازن القائم. إن الإجابات التي سيقدمها النظام السياسي والمجتمع الأمريكي في مواجهة هذه الموجة العاتية لن تحدد مستقبل الديمقراطية في الولايات المتحدة فحسب، بل سترسم أيضاً ملامح النظام العالمي لعقود قادمة.