في المشهد السياسي والديني الأمريكي المشحون بالاستقطاب، حيث تتشابك العقيدة مع الأيديولوجيا بشكل متزايد، برزت ظاهرة حديثة لافتة للنظر: “نبوءة الاختطاف الوشيك في سبتمبر 2025”. هذه الظاهرة، التي انتشرت كالنار في الهشيم عبر منصات التواصل الاجتماعي مثل “TikTok” و”YouTube”، ليست مجرد تكهن ديني هامشي، بل هي مؤشر قوي على الانقسامات العميقة، والقلق المتزايد، والصراع على هوية ومستقبل الحركة الإنجيلية، التي تشكل حجر الزاوية في قاعدة اليمين السياسي الأمريكي. يتجاوز هذا المقال تحليل الظاهرة كحدث ديني ليغوص في دلالاتها السياسية، ويستقرئ مصادرها المحتملة، ويستشرف تأثيرها المستقبلي على مسار السياسة في الولايات المتحدة.

تشريح النبوءة الفيروسية: مزيج من الرياضيات المقدسة والرؤى الشخصية

لم تنبع “نبوءة اختطاف سبتمبر” من مؤسسة لاهوتية راسخة أو قيادة كنسية معترف بها، بل وُلدت ونمت في البيئة الخصبة للإنترنت اللامركزي. تجسدت في موجة عارمة من المحتوى الرقمي الذي زعم أن “الاختطاف” (The Rapture) – وهو معتقد إنجيلي ينص على أن المؤمنين الحقيقيين سيُرفعون إلى السماء قبل فترة “الضيقة العظيمة” في نهاية الزمان – سيحدث في خريف عام 2025، وغالبًا ما تم تحديد تاريخ 23 سبتمبر.

اعتمد مروجو هذه الفكرة على خليط انتقائي من الحجج التي بدت مقنعة لجمهور مستهدف، يتوق إلى اليقين في عالم مضطرب. ويمكن تفكيك أسس هذه النبوءة إلى أربعة أعمدة رئيسية:

  1. التفسيرات الرقمية أو “رياضيات الاختطاف” (Rapture Math): انتشرت حسابات تبدو معقدة، تزعم فك شفرة الجدول الزمني الإلهي من خلال أرقام ورموز مستقاة من الكتاب المقدس. أحد الأمثلة البارزة كان حساب “2550 يومًا”، الذي يربط بين أحداث نبوية مختلفة للوصول إلى تاريخ محدد، مما يضفي على التكهنات مظهرًا علميًا زائفًا.
  2. الربط بالأعياد اليهودية: تم ربط موعد الاختطاف بشكل منهجي بـ”عيد الأبواق” (روش هاشناه). يستند هذا التفسير إلى فكرة لاهوتية مفادها أن أعياد الربيع اليهودية (مثل الفصح) تحققت في مجيء المسيح الأول، وبالتالي فإن أعياد الخريف (مثل عيد الأبواق) ستتحقق في الأحداث المتعلقة بمجيئه الثاني والاختطاف.
  3. الأحلام والرؤى الشخصية: لعبت الشهادات الفردية دورًا محوريًا. حيث شارك “مؤثرون” دينيون على وسائل التواصل الاجتماعي “رؤى” و”أحلامًا” شخصية زعموا أنها رسائل مباشرة من الله تؤكد قرب الموعد. هذا الأسلوب أضفى على النبوءة طابعًا شخصيًا وعاطفيًا، مما جعلها أكثر إقناعًا وتأثيرًا من النصوص اللاهوتية الجافة.
  4. الأحداث العالمية كـ”علامات النهاية”: تم توظيف الأحداث الجارية، من أزمات سياسية وحروب إلى ظواهر فلكية، كأدلة دامغة على أن العالم يعيش “الأيام الأخيرة” التي وصفت في نصوص مثل إنجيل متى 24. كل أزمة جديدة كانت بمثابة تأكيد إضافي على حتمية النهاية الوشيكة.

الأهمية السياسية: صراع بين “لاهوت الهروب” و”لاهوت بناء الأمة”

تكمن الدلالة الاستراتيجية لهذه الظاهرة في أنها تجسد التعبير الأكثر وضوحًا لـ”لاهوت الهروب” (Escape Theology). هذا التيار اللاهوتي، الذي يرى العالم كمكان فاسد وميؤوس منه ولا خلاص له إلا بتدخل إلهي خارق، يقف على طرفي نقيض مع “لاهوت الصحوة” أو ما يمكن تسميته “لاهوت بناء الأمة” الذي تتبناه النخبة السياسية والدينية في الحركة المحافظة.

هذا الصدام الفكري له تداعيات سياسية هائلة. فالنخبة المحافظة، الممثلة في مؤسسات فكرية ومشاريع طموحة مثل “مشروع 2025” (Project 2025)، تعمل بدأب لوضع خطط طويلة الأمد تهدف إلى السيطرة على مفاصل الدولة، وإعادة تشكيل البيروقراطية الفيدرالية، وتطبيق أجندة سياسية محافظة بشكل جذري. هذا المشروع يتطلب إيمانًا بإمكانية إصلاح “ممالك هذا العالم” والعمل الدؤوب لعقود قادمة.

في المقابل، فإن الإيمان باختطاف وشيك في سبتمبر 2025 يجعل كل هذه المشاريع السياسية الدنيوية بلا معنى. لماذا تستثمر الوقت والجهد والمال في خطة تمتد لعشر سنوات إذا كان المسيح سيعود العام المقبل لإنهاء كل شيء؟ هذا التفكير لا يعكس مجرد اختلاف في التفسير الديني، بل يكشف عن حالة من اليأس العميق من قدرة السياسة على إصلاح الواقع، وتفضيل الهروب السماوي على الانخراط في معارك أرضية.

هنا يظهر الصدع العميق بين القيادة والقاعدة. بينما تجتمع النخب في المؤتمرات الوطنية لمناقشة استراتيجيات السيطرة على واشنطن، تنشغل قطاعات واسعة من قاعدتهم الشعبية بمشاهدة مقاطع فيديو على “TikTok” حول كيفية الاستعداد للرحيل عن هذا العالم بالكامل. هذا الانفصال النفسي والأيديولوجي يمثل تحديًا خطيرًا لوحدة الحركة المحافظة وقدرتها على الحشد والتعبئة لتحقيق أهدافها السياسية طويلة الأمد.

استقراء المصادر: ظاهرة شعبية أم أداة موجهة؟

إن السؤال حول مصدر هذه التنبؤات وأسباب انتشارها السريع هو سؤال محوري. هل هي مجرد تعبير عفوي عن قلق ديني، أم أن هناك أيادي خفية توجهها أو تستغلها؟ يمكن تحليل المصادر المحتملة عبر ثلاثة مستويات:

1. المصدر الديني الشعبي (الأكثر ترجيحًا): الدليل الأقوى يشير إلى أن هذه الظاهرة هي في جوهرها دينية شعبية (Grassroots). إنها نتاج طبيعي لتاريخ طويل من الفكر الأخروي (Eschatology) في البروتستانتية الأمريكية، والذي وجد في الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وسيلة غير مسبوقة للانتشار. الخوارزميات التي تفضل المحتوى المثير والمقلق ساهمت في تضخيم هذه الرسائل وإيصالها إلى جمهور أوسع بكثير من أي وقت مضى. إنها ظاهرة “من الأسفل إلى الأعلى”، يقودها مؤمنون عاديون ومؤثرون صغار وجدوا في هذه النبوءة إجابات مبسطة لعالم معقد ومخيف. القلق الاقتصادي، والاستقطاب السياسي، والشعور بفقدان الهوية الثقافية، كلها عوامل تغذي التربة التي تنمو فيها مثل هذه الأفكار.

2. المصدر الاستخباراتي أو التلاعب السياسي الداخلي (احتمال): هل يمكن أن تكون هذه الظاهرة نتيجة عملية نفسية محلية؟ من المستبعد أن تكون جهة استخباراتية قد “خلقت” هذه النبوءة من العدم، لأن جذورها الدينية عميقة وأصيلة. لكن الاحتمال الأكثر منطقية هو “الاستغلال” و”التضخيم”. يمكن لجهات فاعلة سياسية داخلية، تسعى إلى إضعاف خصومها داخل الحزب الجمهوري أو الحركة المحافظة، أن تستخدم شبكات من الحسابات الوهمية لتضخيم هذه الروايات. الهدف قد يكون زرع اليأس واللامبالاة السياسية بين صفوف قاعدة الخصم، مما يقلل من حماسهم للمشاركة في الانتخابات أو دعم المشاريع السياسية طويلة الأمد، وبالتالي إفساح المجال لتيارات أخرى أكثر براغماتية للسيطرة.

3. المصدر الخارجي (احتمال قائم): لا يمكن استبعاد دور الجهات الخارجية التي تسعى لزعزعة استقرار الولايات المتحدة. دول مثل روسيا أو الصين تبرع في استخدام المعلومات المضللة لتأجيج الانقسامات المجتمعية القائمة. تُعتبر الانقسامات الدينية والسياسية داخل القاعدة الإنجيلية هدفًا مثاليًا. من خلال تضخيم نبوءات الهروب هذه، يمكن لجهة فاعلة خارجية أن تحقق عدة أهداف:

  • تعميق الاستقطاب: زيادة الشرخ بين النخبة السياسية المحافظة وقاعدتها الشعبية.
  • نشر اللامبالاة: تشجيع شريحة من الناخبين المحافظين على الانفصال عن العملية السياسية، إيمانًا منهم بقرب نهاية العالم.
  • تقويض الثقة: إظهار شريحة كبيرة من المجتمع الأمريكي بمظهر غير العقلاني والمنفصل عن الواقع، مما يضعف صورة الولايات المتحدة على الساحة العالمية. الأرجح هو سيناريو هجين: ظاهرة دينية شعبية أصيلة، يتم رصدها ثم تضخيمها بشكل منهجي من قبل جهات فاعلة داخلية وخارجية تسعى كل منها لتحقيق أهدافها الخاصة.

التأثير المستقبلي: ما بعد سبتمبر 2025

بغض النظر عن مصدرها، فإن لهذه الظاهرة تداعيات مستقبلية مهمة، خاصة بعد أن يمر سبتمبر 2025 دون وقوع “الاختطاف”. التاريخ يقدم لنا دروسًا واضحة من حركات مماثلة:

  • خيبة الأمل والتفتت: سيشعر جزء من أتباع هذه النبوءة بخيبة أمل مريرة. قد يؤدي ذلك إلى فقدان الثقة في القادة الدينيين على الإنترنت، أو حتى التشكيك في معتقداتهم الأساسية، مما قد يؤدي إلى تفتت إضافي داخل الحركة الإنجيلية.
  • إعادة التفسير وتحريك المرمى: وهو السيناريو الأكثر شيوعًا. بدلًا من التخلي عن المعتقد، سيقوم العديد من المروجين بإعادة تفسير الأحداث. قد يزعمون أن حساباتهم كانت خاطئة بشكل طفيف، أو أن الله “أجّل” الحدث بسبب صلوات المؤمنين، أو أن النبوءة كانت رمزية وليست حرفية. سيتم تعديل التواريخ، وستظهر نبوءة جديدة، وستستمر الدورة.
  • فرصة للنخب السياسية: قد تستغل النخبة السياسية والدينية هذا الفشل لتأكيد سلطتها. يمكنهم أن يقدموا أنفسهم على أنهم الصوت “العقلاني” و”الناضج” في مواجهة “التطرف” و”الهامشية”، داعين إلى العودة إلى الانخراط السياسي العملي تحت قيادتهم. قد تكون هذه فرصة لـ”مشروع 2025″ وأمثاله لإعادة تأكيد أهميته كطريق وحيد لـ”خلاص الأمة”.
  • تآكل المصداقية: على المدى الطويل، يؤدي تكرار مثل هذه النبوءات الفاشلة إلى تآكل مصداقية الحركة الإنجيلية ككل في نظر المجتمع الأوسع، مما يجعل من السهل على خصومهم السياسيين تصويرهم كحركة غير متصلة بالواقع.

خاتمة

“نبوءة اختطاف سبتمبر 2025” هي أكثر بكثير من مجرد حكاية غريبة على الإنترنت. إنها مرآة تعكس أعمق مخاوف وانقسامات شريحة مؤثرة من المجتمع الأمريكي. إنها تكشف عن التوتر المتأصل بين رؤيتين متضاربتين للمستقبل داخل اليمين الديني: رؤية تسعى إلى بناء مملكة أرضية من خلال السيطرة السياسية، ورؤية تتوق إلى الهروب من عالم محتضر إلى مملكة سماوية. إن فهم هذه الظاهرة لا يساعدنا فقط على فهم الدين في العصر الرقمي، بل يوفر لنا أيضًا نظرة ثاقبة على نقاط الضعف والصدوع التي قد تعيد تشكيل المشهد السياسي الأمريكي لسنوات قادمة، بغض النظر عما سيحدث أو لن يحدث في ذلك اليوم من شهر سبتمبر.

مصنَّف ضمن:

عام,