لفهم حالة الاستقطاب العميقة التي يعيشها الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، لم يعد يكفي النظر إلى السياسيين التقليديين. لقد نشأ نظام بيئي إعلامي جديد، له “أبواقه” ومؤثروه الذين أصبحوا هم القوة الحقيقية في تشكيل الرأي العام وقيادة “الطوفان الثقافي”. هذا التقرير هو دليل مبسط للتعرف على أهم هؤلاء الفاعلين في المعسكرين الرئيسيين المتصارعين.
و سنبدأ بستيف بانون فهو شخصية محورية لفهم “الطوفان الثقافي”، لأنه ليس مجرد “بوق”، بل هو أحد أهم “المهندسين” الأيديولوجيين للحركة الشعبوية. فهذه لمحة مفصلة عنه.
1. لمحة تاريخية: من وول ستريت إلى الثورة
سيرة بانون المهنية هي مزيج فريد وغير متوقع، وهو ما يفسر قدراته المتعددة:
- العسكري: بدأ حياته كضابط في البحرية الأمريكية، مما منحه خبرة مباشرة بالمؤسسة العسكرية ونظرة وطنية للعالم.
- رجل المال: عمل كمصرفي استثماري في “غولدمان ساكس”، أحد أهم قلاع “معسكر الولاء” المالي. هذه التجربة منحته فهماً عميقاً لآليات عمل النظام المالي الذي يهاجمه اليوم. هو يعرف “العدو” من الداخل.
- المنتج الإعلامي: انتقل إلى هوليوود وعمل كمنتج. هذه الفترة صقلت مهاراته في صناعة السرديات وفهم قوة الثقافة والإعلام في تشكيل الوعي.
- الزعيم الإعلامي-السياسي: تولى رئاسة موقع “برايتبارت نيوز”، وحوله إلى المنصة الإعلامية الأقوى لليمين الشعبوي (أو ما كان يُعرف بـ “اليمين البديل”).
- الاستراتيجي السياسي: كان العقل المدبر للمرحلة الأخيرة من حملة ترامب الرئاسية عام 2016، ثم شغل منصب “كبير المخططين الاستراتيجيين” في البيت الأبيض، وهو المنصب الذي سمح له بمحاولة تطبيق أفكاره الثورية من داخل السلطة.
2. القدرات الاستراتيجية: “مهندس السرديات”
قوة بانون لا تكمن في كونه سياسياً أو اقتصادياً، بل في كونه “مهندس سرديات” من الطراز الأول. قدراته الاستراتيجية تتركز في ثلاث نقاط:
- قراءة الأنماط التاريخية: هو مهووس بفكرة “الدورات التاريخية”، وتحديداً نظرية “التحول الرابع” (The Fourth Turning) للمؤرخين نيل هاو وويليام شتراوس. هذه النظرية تقول إن التاريخ الأمريكي يمر بدورات مدتها حوالي 80 عاماً، تنتهي كل منها بأزمة كبرى (“التحول الرابع”) تهدم النظام القديم وتؤسس لنظام جديد (الثورة الأمريكية، الحرب الأهلية، الحرب العالمية الثانية). بانون يعتقد اعتقاداً جازماً أننا نعيش الآن في خضم “التحول الرابع”، وأن مهمته هي توجيه هذه الأزمة نحو ولادة “جمهورية قومية” جديدة.
- تحديد العدو: بانون بارع في تحديد “عدو” واضح وملموس يمكن حشد الجماهير ضده. هذا العدو هو “النخبة العالمية” أو “حزب دافوس”، وهي طبقة عابرة للحدود (من رجال أعمال وسياسيين وإعلاميين) يرى أنها خانت مصالح الطبقة العاملة والدولة القومية.
- بناء إعلام بديل: أدرك بانون مبكراً أن الإعلام التقليدي هو العدو. لذلك، كرس كل جهوده لبناء نظام بيئي إعلامي موازٍ (برايتبارت، بودكاست War Room) قادر على صناعة “واقعه” الخاص وتعبئة “جيشه” الرقمي.
3. الخلفية العقدية: قومية وليست محافظة
من الخطأ تصنيف بانون كـ”محافظ” بالمعنى التقليدي. عقيدته هي “القومية الاقتصادية” و “التقليدية الراديكالية”.
- هو ليس معنياً بخفض الضرائب والأسواق الحرة (عقيدة الجمهوريين التقليدية)، بل هو حمائي، يؤمن بضرورة حماية الصناعة الوطنية والعمال الأمريكيين من “العولمة المفترسة”.
- فكرياً، هو متأثر بتيار “التقليدية” (Traditionalism)، وهي مدرسة فلسفية معادية للحداثة والليبرالية والعلمانية، وترى أن العالم يعيش أزمة روحية عميقة. هذا يفسر لماذا يصف الصراع دائماً بأنه “حرب روحية” أو “حرب وجودية”.
4. مفكر أم ناشط سياسي؟ “الاستراتيجي الثوري”
هنا يكمن تفرده. بانون ليس مفكراً أصيلاً ينتج نظريات جديدة، بل هو “مركب أفكار” (Synthesizer) عبقري. هو يأخذ أفكاراً معقدة من التاريخ (ابن خلدون، توينبي)، والفلسفة (التقليدية)، والاقتصاد (الحمائية)، ويقوم بتركيبها في عقيدة سياسية بسيطة وقوية وقابلة للتنفيذ.
وفي نفس الوقت، هو ناشط سياسي لا يرحم، يستخدم كل الأدوات المتاحة (الإعلام، التعبئة، الصراع) لتحقيق أهدافه.لذلك، فإن أفضل وصف له هو “الاستراتيجي الثوري”. هو يشبه لينين في قدرته على دمج “النظرية” الثورية مع “التنظيم” الثوري. هو العقل الذي يحاول توجيه طاقة “الطوفان” الغاضبة نحو هدف محدد: هدم النظام العالمي القائم، وبناء نظام جديد قائم على الدولة القومية والتقاليد.