في قرية سورية مُمزقة بالحرب، كان “علي” -الطفل البالغ 12 عامًا- يتشبث بحياة بسيطة مع جدته، بعد أن سلبته الحرب والديه،  حتى جاء صيف 2022، حين قلبَت حملة “كفالة يتيم” على منصة “صدقة” الإلكترونية مصيره رأسًا على عقب.

رجل وامرأة من مذهبين متباعدين تكفّلاه، وتدفقت آلاف المساهمات في أيام، كما وثّق تقرير “مؤسسة التقوى الخيرية” (2022)، لتُضيء دموع جدته فرحًا برسالة الكفيلين: “التعاطف لا مذهب له”، حسب “أطفال الحرب” (2023).

من دعوة إنسانية رقيقة انبثقت من قلب القيم الدينية، انفجر الدين الرقمي كقوة جبارة على الشبكات، لكنها قوة تتأرجح: تضامن يذيب الحدود الطائفية، أو خطابات تُشيّد جدرانًا افتراضية بين السنة والشيعة.

هذه اللحظة تُلخص لغزًا عظيمًا: كيف نُحوّل الدين من حائط عازل إلى جسر يصل العالم؟ بعد رحلة عبر هوياتنا وعواطفنا وإبداعنا الرقمي، نصل إلى هذا التحدي الجديد في “الدين الرقمي: كيف نصنع جسورًا بدلًا من جدرانٍ افتراضية؟”، حيث يقول الله تعالى: {وما أرسلناك إلَّا رحمةً للعالَمين} (الأنبياء: 107)، دعوة كونية تُنير مسارًا لثقافة رقمية تُحررنا من أنماطنا، وتُطلقنا نحو آفاق التآلف العالمي.

يظل الخطاب الديني العربي محصورًا في أساليب وعظية تقليدية، غالبًا متكررة وأحادية الجانب، تقدم الدين كمجموعة من القواعد الصلبة دون حوار مفتوح

التحليل العميق

المحتوى والعمق: ما الذي يُشكل المحتوى الديني العربي؟

يتأرجح المحتوى الديني العربي بين مواعظ تقليدية، كتلك التي تُبث عبر قنوات “الداعية” لتقديم نصائح يومية مثل آداب الصلاة، وحوارات حديثة كمنصة “إسلاميات”، التي تُناقش قضايا كالمساواة من منظور ديني. لكن، هل يملك الدين ثقافة عالية تُؤهله للانتشار العالمي؟ نتساءل كما تساءل عبدالوهاب المسيري في “العلمانية تحت المجهر” (2005) عن قدرة الخطاب الديني على التجدد.

تقرير مركز الملك فيصل (2020) يُظهر أن 70% من هذا المحتوى يتركز على تفسيرات ضيقة، وهو ما يؤكده تحليل “مركز الدراسات الإسلامية المعاصرة” (2021)، مُعززًا الانعزال بدلًا من فضيلة الرحمة والعدل، التي شكّلت أساس “حلف الفضول” (ابن هشام، القرن التاسع الميلادي).

لكن، وبالرغم من هذا الواقع، هناك نماذج جيدة دعمت الخطاب الديني، كمنصة “رحمة” التي تُقدم محتوى تعليميًّا للأطفال، وحملة “مدارس القرآن” التي جمعت تبرعات لمدارس دينية في أفريقيا، ومبادرة “وعي” لنشر القيم عبر فيديوهات.. هذه أمثلة فقط، إذ تُعنى هذه المقالة بالأغلب لا بالقليل، وإنها “لو خلت خربت”، كما يقول المثل.

الجمهور والتفاعل: أيُوحِّد الدين أم يُفرِّق؟

يستقبل الجمهور العربي المحتوى الديني بتفاعل هائل، لكنه ينقسم بين تضامن وانقسام. حملة “كفالة يتيم” جمعت مساهمات من طوائف مختلفة، لكن حملة “إحياء ليلة القدر” (2022)، التي حلّلتها “مبادرة الإعلام الرقمي العربي” (2023)، كشفت أن نسبة كبيرة من تفاعلاتها عكست تمايزًا طائفيًّا، بينما نجحت “الإفطار معًا”، كما وثّقها مركز الملك عبدالعزيز (2021)، في جمع مسلمين وغير مسلمين، مُبرزةً قوة القيم المشتركة.

لماذا يغلب الانقسام على التضامن؟ يقول محمد عمارة: “الدين ليس ملكًا لفئة، بل رحمة تجمع الأمة على قلب واحد، إذا فهمنا جوهره”، مُشيرًا إلى أن التضامن ممكن إذا تحررنا من النظرة الطائفية الضيقة. بينما تُظهر النماذج الإيجابية إمكانات التجميع، كما في قصة “نورا”، وهي متطوعة شيعية من البحرين شاركت في الحملة قائلة: “تعلمت أن بكاء اليتيم لا يصمه مذهب”!. يبقى غياب الخطاب الإنساني العام عائقًا أمام التواصل الكامل.

الأسلوب والتقديم: ماذا نستلهم من الثقافات الأخرى؟

يظل الخطاب الديني العربي محصورًا في أساليب وعظية تقليدية، غالبًا متكررة وأحادية الجانب، تقدم الدين كمجموعة من القواعد الصلبة دون حوار مفتوح، ما يُضعف جاذبيته عالميًّا. في المقابل، يعتمد البث المسيحي الأميركي، كما حلّلت كامبل في “When Religion Meets New Media” (2010)، على تقديم مفتوح كبرنامج “The 700 Club” الذي يُركز على القيم المشتركة كالرحمة والأمل، جاذبًا ملايين المشاهدين بأسلوب تفاعلي يمزج القصص الشخصية بالمواعظ.

تُشير دراسة مركز اللغة العربية في أبوظبي (2022) إلى أن أدوات الذكاء الاصطناعي تُحلل الخطاب الديني، لكنها تفتقر لفهم القيم الأعمق، بسبب نقص بيانات شاملة تتجاوز الفتاوى الشكلية إلى الجوهر الإنساني

في الهند، يمزج المحتوى البوذي الروحانية مع التسامح عبر بودكاست “Mindful Living”، كما وثق مركز بيو (2018)، مُعززًا الحوار بين المجتمعات بتقديم مرن يتجاوز التقليدية الصارمة. في هذا السياق، يقول محمد أركون: “الدين لا يعيش إلا إذا تحرر من قيود التقليد الأعمى وانفتح على الحوار مع العالم”، مُشيرًا إلى ضرورة تجديد الأساليب ليكون الخطاب جسرًا عالميًّا.

التكنولوجيا تضيف بُعدًا جديدًا، حيث تُشير دراسة مركز اللغة العربية في أبوظبي (2022) إلى أن أدوات الذكاء الاصطناعي تُحلل الخطاب الديني، لكنها تفتقر لفهم القيم الأعمق، بسبب نقص بيانات شاملة تتجاوز الفتاوى الشكلية إلى الجوهر الإنساني. ما الذي يمنعنا من استلهام هذه الأساليب لتحويل الخطاب العربي إلى لغة عالمية؟ الانخراط في تقديم مرن وتفاعلي، كما فعلت “كفالة يتيم” بقصصها الحية، ضروري لصناعة محتوى مُبدع يكسر جدران الشاشات ويُعزز الجسور.

التأثير الثقافي: كيف يُصبح الدين جسرًا عالميًّا؟

يمكن للقيم الدينية العربية أن تُشكل جسورًا ثقافية إذا تحررت من الأنماط السائدة التي تُغلق الأبواب وتُقيم الحواجز. التسامح والعدل، اللذان تجسّدا في “حلف الفضول” الذي جمع قبائل مختلفة لنصرة المظلوم قبل أكثر من ألف عام (ابن هشام، القرن التاسع الميلادي)، يملكان قدرة على إثراء العالم في ظل تراجع القيم الغربية الفردية، كما يُحلل إدوارد سعيد في “الاستشراق” (1978).

في آسيا، نجحت مبادرة “Buddhist Peace Fellowship” في ميانمار بتعزيز السلام عبر الشبكات بين المجتمعات المتنازعة، مستخدمةً قصصًا ملهمة ومنصات رقمية لنشر التسامح، كما وثق تقرير “Asia Dialogue”(2020).

لكن دراسة جامعة الشارقة (2022) تُظهر أن 40% من التفاعلات الدينية العربية تُعزز الانقسامات الطائفية، مُغذَّاةً بخطابات تفضيل مذهب، أو فتاوى متشددة تُهاجم الآخر، بدلًا من حوارات العدل. “مؤشر القيم الدينية العالمية” (2023)، بالتعاون مع مركز “بيو”، يُظهر أن نسبة ذكر “العدل” في المحتوى العربي لا تتجاوز 8%، مقابل 23% في المحتوى الهندي.

هل يمكن للدين أن يتحول إلى قيم مفتوحة تُعزز العلاقات بين الشعوب؟ السياق العربي بحاجة إلى خطوة مماثلة تتجاوز الجدران الافتراضية.

الأنماط السائدة: جدران افتراضية تُغذيها الشاشات

عندما نتحدث عن “الأنماط السائدة” في الخطاب الديني الرقمي، نعني تلك الأفكار والممارسات التي تُكرّس الانقسام بدلًا من الحوار. الخطاب الطائفي يُركز على اختلافات المذاهب، كفتاوى تُهاجم الآخر بدلًا من تعزيز القواسم المشتركة، والتفسيرات الضيقة تختزل الدين في مظاهر شكلية كالجدل حول لون الحجاب أو شكل العبادة، مُهملةً قيمه الجوهرية كالتعاطف والعدل، بينما يطرح الخطاب الأحادي الرأيَ الديني كحقيقة مطلقة دون احترام التعددية، مُغلقًا باب النقاش.

فبينما يدعو المحتوى التجميعي إلى حوارات العدل وفيديوهات مشتركة لإغاثة المنكوبين، يُغلّب المحتوى الانعزالي خطابات تفضيل مذهب أو فتاوى متشددة، مُشكّلًا جدرانًا افتراضية تُغذيها خوارزميات الشاشات، كما يُظهر تقرير مركز الملك فيصل (2020) بنسبة 70% انعزالية، وتؤكد دراسة جامعة الشارقة (2022) تفاقم الانقسام بنسبة 40% من التفاعلات.

تطبيق “كفالة مباشرة” يربط الكفيل باليتيم مباشرةً، عبر شهادة رقمية موثقة تُظهر صورة الطفل وتقريرًا شهريًّا عن دعمه، بينما تُحلل أداة “نور” من جامعة الملك عبدالله النصوص الدينية لاستخراج قيم التضامن وإنتاج محتوى تفاعلي يُعززها

الرؤية العملية

تتجلّى الرؤية في نسج محتوى ديني عربي يُحوّل قيم التسامح والعدل إلى جسورٍ رقمية تذيب الحواجز الطائفية، مدعومًا بتكنولوجيا تُحلل الأصوات وتُطلق الحوار عبر العالم، ليكون الدين مرآةً تعكس وحدتنا لا جدرانًا تُفرقنا. يمكن تحقيق ذلك عبر مبادراتٍ ملموسة: منصة “لقاء القيم” تجمع عالمين من مذهبين في حلقات حية على يوتيوب، يناقشان قضايا مثل فقر الأطفال، مستلهمين من نصوص “إغاثة الملهوف”، لتُنتج فيديوهات تُعرض أسبوعيًّا وتُترجم لتصل عالميًّا، على غرار “الحوار الوطني” السعودي.

تطبيق “كفالة مباشرة” يربط الكفيل باليتيم مباشرةً، عبر شهادة رقمية موثقة تُظهر صورة الطفل وتقريرًا شهريًّا عن دعمه، بينما تُحلل أداة “نور” من جامعة الملك عبدالله النصوص الدينية لاستخراج قيم التضامن وإنتاج محتوى تفاعلي يُعززها. مسلسل كرتوني كـ “قلب المدينة” يروي قصة فتاة تُحيي “حلف الفضول” بأسلوب “أنيميشن” مُبهر يُعرض على منصات مثل نتفليكس، وتعاون “الشيعة تيوب” و”السنة لايف” يُنتج سلسلة فيديوهات “أخلاقيات الحرب”، كل حلقة تُختتم بحكمة مثل “العدل ليس حكرًا على أحد”، مُصممة بجودة عالية تُنافس عالميًّا.

ختامًا:

هذه نقطة انطلاقٍ فقط: تنتظرنا رحلةٌ مُذهلة، حيث يرقص التراث مع التكنولوجيا.. أبياتٌ شعرية تُحلق كأصداءٍ عبر الأثير، قصصٌ بطولية تُعاد حياكتها بألوان الشاشات، وروحٌ حضارية تُطلق أجنحتها فوق الحدود.. هذه النماذج اختارت ثقافتها الأصيلة وانطلقت منها، فلنغرف من ثقافتنا العربية الإسلامية، فإن كنزًا مهجورًا تركناه ينتظر من يكتشف أسراره ويُحييه بأنفاس العصر!

“خوارزميات السوشيال ميديا تُضخّم الخلاف، فلنختر نحن ما يُضخَّم!”.. شارك هذا المقال واسأل: “ما التراث الذي تود أن يُحلق عالميًا؟”.

مصنَّف ضمن:

الجزيرة نت, مقالات,