تأسست الولايات المتحدة على مبدأ “الفصل بين السلطات” و”الضوابط والتوازنات”، حيث صُممت المؤسسات لتكون بمثابة مراسي للاستقرار. فالمحكمة العليا وُجدت لتكون حارسًا محايدًا للدستور، والاحتياطي الفيدرالي أُنشئ لضبط الاقتصاد بعيدًا عن أهواء السياسيين، ووزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) وُضعا لإنفاذ القانون بـ”عصابة عين” لا ترى الانتماءات، والجهاز الإداري المحترف وُجد لضمان استمرارية عمل الحكومة بكفاءة. هذا التصميم يهدف إلى إبطاء التغيير، وتبريد المشاعر السياسية المحتدمة، وضمان عدم قدرة أي فرد أو حزب على الاستيلاء الكامل على جهاز الدولة.
لكن هذا المنظور التقليدي يواجه الآن تحديًا جذريًا، مدفوعًا بفكرة أن هذه المؤسسات المستقلة قد تحولت إلى “دولة عميقة” (Deep State) معادية للإرادة الشعبية. من هذا المنظور، فإن هجوم الرئيس السابق ترامب على رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول لم يكن خلافًا على سياسة، بل محاولة لإخضاع الاقتصاد للأجندة السياسية. والتشكيك في نزاهة وزارة العدل أو الـFBI هو جزء من معركة لنزع سلاح الخصم. كما أن المعارك الشرسة حول تعيينات القضاة في المحكمة العليا تحولها من هيئة قضائية إلى غنيمة سياسية.
اليوم، أصبح الصدام الثقافي في أمريكا يدور حول هذه المؤسسات بالذات. لم يعد النقاش حول “ماذا يجب أن تفعل وزارة العدل؟” بل أصبح حول “لمن تدين وزارة العدل بالولاء؟”. هذا التزحزح الفكري أدى إلى تآكل هائل في ثقة الجمهور، وحول السياسة إلى صراع وجودي. فبدلاً من أن تكون المؤسسات هي الملعب الذي يتنافس فيه اللاعبون، أصبحت هي الكرة التي يحاول كل طرف تسجيل هدف بها، وهو ما يهدد بكسر قواعد اللعبة الديمقراطية نفسها.

مصنَّف ضمن:

الجزيرة نت, مقالات,