في مشهد سياسي يزداد اضطرابا، تجد الولايات المتحدة نفسها غارقة في استقطاب لم يعد يقتصر على حلبة السياسة، بل امتد ليضرب عمق الهوية الوطنية ونسيج المجتمع؛ فالصراعات الداخلية في اليمين، والهجوم على المؤسسات الدولية، وتجريم الاحتجاجات، هذه ليست مجرد أزمات منفصلة، بل هي أعراض لـ”عدم توازن” عميق.

ولفهم العلة في كون الأزمة الراهنة أكثر خطورة من أي وقت مضى، يجب أن ندرك أنها نتاج التقاء عاملين ضخمين: “صدع تأسيسي” قديم في بنية الدولة النخبوية، و”طوفان عالمي” جديد (ثقافي، ديمغرافي، معلوماتي) يضرب هذا الصدع بقوة غير مسبوقة.

هذا المقال يحلل كيف أن المحركات الخارجية تستغل هذا الضعف البنيوي التاريخي، وتسرّع من انحدار “الدولة الأمة” نحو حالة من التشظي.

لقد تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحة حرب جيوسياسية. عبر التضليل المنهجي، الذي توثقه تقارير مؤسسات مثل “مختبر أبحاث الطب الشرعي الرقمي” التابع للمجلس الأطلسي، تعمل هذه القوى على هدف مركزي: تحطيم الثقة في النظام الفدرالي نفسه

الجينات الخفية للأزمة: الصدع التأسيسي

إن القراءة النقدية للتاريخ الأميركي، التي تجد جذورها في أعمال مؤرخين بارزين مثل تشارلز بيرد (Charles A. Beard) في كتابه التأسيسي “تفسير اقتصادي لدستور الولايات المتحدة” (1913)، تجادل بأن الثورة الأميركية لم تكن ثورة شعبية بالمعنى الكامل، بل كانت في جوهرها حربا بين نخب اقتصادية حول المصالح التجارية والضريبية.. السلطة لم تنتقل “من الملك إلى الشعب”، بل “من نخبة بريطانية إلى نخبة أميركية”.

هذا الواقع تجسد بوضوح في الدستور الأميركي الأول، الذي حصر حق التصويت في فئة ضئيلة من الرجال البيض الأثرياء الذين يملكون العقارات، وأسس هياكل مثل “المجمع الانتخابي” و”مجلس الشيوخ” كأدوات لكبح الديمقراطية المباشرة وحماية مصالح الأقلية الثرية.

هذه البداية النخبوية أسست لانقسام بنيوي في المجتمع، وهذا المفهوم تم تطويره لاحقا على يد مفكرين مثل عالم الاجتماع سي. رايت ميلز (C. Wright Mills)، الذي تحدث في كتابه الشهير “نخبة السلطة” (1956) عن وجود شبكة متداخلة من القادة السياسيين والعسكريين والاقتصاديين، يسيطرون على مفاصل القرار بشكل مستقل عن الإرادة الشعبية.. هذه البنية هي التي نسميها اليوم “ثقافة الولاء”.

لقد خلق هذا “التصميم الأصلي” فئتين غير متكافئتين: فئة نخبوية تتمتع بـ”حرية الحكم” وصياغة السياسات، وفئة شعبية أوسع مُنحت “حرية التعبير” كآلية للتنفيس.

هذا الصدع، الذي انفجر بعنف في الحرب الأهلية الأميركية ولم يتم حله بالكامل، ظل كامنا ومُدارا لقرون، إلى أن جاء “الطوفان الثقافي” الحالي ليفجره من جديد.

قضية الهجرة أصبحت هي ساحة المعركة الرئيسية التي تدور عليها “حرب الولايات”، حيث ترفع الولايات الزرقاء دعاوى قضائية لحماية المهاجرين، بينما تنشر الولايات الحمراء الحرس الوطني على حدودها

المحركات الخارجية التي تصب الزيت على النار

إذا كانت البذور التاريخية كامنة، فما الذي جعلها تنبت أشواكا حادة الآن؟ هناك محركان خارجيان جباران يستغلان هذا الصدع الداخلي ويعملان على توسيعه:

  • حرب المعلومات: لم تعد القوى المنافسة (كروسيا والصين) بحاجة لإرسال جيوش؛ فكما يوضح الخبيران بيتر سينغر وإيمرسون بروكينغ في كتابهما المرجعي “Like War”، لقد تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحة حرب جيوسياسية. عبر التضليل المنهجي، الذي توثقه تقارير مؤسسات مثل “مختبر أبحاث الطب الشرعي الرقمي” التابع للمجلس الأطلسي، تعمل هذه القوى على هدف مركزي: تحطيم الثقة في النظام الفدرالي نفسه.

إنها لا تروج لأيديولوجيتها، بل إنها -كما يصف الخبير كلينت واتس- “تدفع الأميركيين إلى أقصى اليمين وأقصى اليسار لتدمير الوسط”. هي تغذي السرديات التي تقول إن الحكومة المركزية هي “العدو”، وتدعم الحركات الانفصالية في تكساس وكاليفورنيا على حد سواء، في عملية تفكك داخلي يتم التحكم بها من الخارج.

  • الهجرة والهويات المتعددة: لم تعد الهجرة المعاصرة تؤدي إلى “الانصهار” كما في الماضي. بفضل التكنولوجيا التي تسمح بظهور “هويات عابرة للحدود”، والفلسفات التعددية التي حللها مفكرون مثل تشارلز تايلور في “سياسة الاعتراف”، يحتفظ المهاجرون الجدد بهوياتهم وشبكاتهم.

هذا يخلق ما حذر منه مفكرون محافظون مثل صامويل هنتنغتون: مجتمعات داخل المجتمع. ويتحول الخلاف حول الهوية إلى نزاع دستوري حاد بين الولايات التقدمية التي تتبنى التعددية، والحكومة الفدرالية المحافظة التي تسعى لفرض هوية متجانسة.

قضية الهجرة أصبحت هي ساحة المعركة الرئيسية التي تدور عليها “حرب الولايات”، حيث ترفع الولايات الزرقاء دعاوى قضائية لحماية المهاجرين، بينما تنشر الولايات الحمراء الحرس الوطني على حدودها، مما يضعف السلطة المركزية، ويعيد إلى الأذهان شبح الكونفدرالية الفاشل في التاريخ الأميركي.

تفكيك الثقة في الحكومة المركزية، وتعميق الانقسامات الجغرافية والثقافية عبر حرب المعلومات، وتغذية صراع الهويات عبر الهجرة، كلها عوامل تعمل على تدمير ممنهج لهذه “العصبية”

أزمة “العصبية” الأميركية في لحظة تاريخية حرجة، تقف الولايات المتحدة أمام سؤال وجودي: أهي أمة موحدة ذات مشروع سياسي جامع، أم إن ما بينها كان دوما مجرد اتفاق هش؟

إن “الطوفان الثقافي” الحالي، مع المحركات الخارجية التي تضخمه، لا يهاجم سياسات، بل يهاجم “العصبية” التي تحدث عنها ابن خلدون؛ أي روح التضامن الاجتماعي، والشعور بالهدف المشترك الذي يربط الأمة ببعضها.

فتفكيك الثقة في الحكومة المركزية، وتعميق الانقسامات الجغرافية والثقافية عبر حرب المعلومات، وتغذية صراع الهويات عبر الهجرة، كلها عوامل تعمل على تدمير ممنهج لهذه “العصبية”.

الإجابة عن السؤال الأصلي هي ما سيحدد ما إن كان هذا التآكل في العصبية سيؤدي إلى ولادة توازن جديد، أم إلى انهيار كامل للبنية التي صمدت لأكثر من قرنين

مصنَّف ضمن:

الجزيرة نت, مقالات,